بعيداً عن الغوغائية والإثارة من جانب والسطحية والغثاثة من جانب آخر.. تبني المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية الذي يقوده اثنان من أفضل العقول الاستراتيجية الوطنية اللواء أحمد فخر واللواء عادل سليمان تبني مشروعا بحثيا جادا حول الدور المصري في بيئة إقليمية متغيرة في محاولة للتوصل إلي تقدير محدد بشأن واقع الدور المصري في المنطقة حاليا في ظل ما تشهده من متغيرات خاصة علي الساحة اللبنانية والفلسطينية ومن قبلها الساحة العراقية ومن بعدها الساحة السودانية وما تشهده من محاولة بناء تحالفات إقليمية جديدة في مواجهة إسرائيل وكان السؤال الرئيسي الذي يحاول هذا المشروع البحثي الحصول علي إجابة محددة عليه هي: هل هذا الدور المصري قد ثبت أم تقلص أم ترجع؟ وأما الاجابة فقد تم السعي إلي استخلاصها من خلال عدة حلقات نقاش للتعامل مع هذه القضية من زوايا مختلفة سياسية واستراتيجية.. تناولناها في هذا المكان من قبل بالرصد والتحليل. ويوم الخميس الماضي استأنف المركز الدولي للدراسات المستقبلية والاستراتيجية مشروع البحث المهم بحلقة بحثية تركزت علي الدور الثقافي لمصر. وفي البداية أوضح الأديب الكبير جمال الغيطاني أن مصر لم تعد اللاعب الرئيسي في السياسة العربية كما أنها في الاقتصاد ليست الأغني، وبالتالي لم يعد لمصر إلا الدور الثقافي وهو دور اكتسب قوة حتي في ظل الاحتلال العثماني والاحتلال البريطاني وهذه القوة بدورها راجعة إلي قوة الركائز الثقافية المصرية. والأزهر في رأي الغيطاني هو أحد أهم هذه الركائز حيث كان جامعة وليس جامعا فقط (حتي إجهاض دوره في الستينيات من القرن الماضي علي أثر صدور قانون ما يسمي بتطوير الازهر) ولذلك يطالب الغيطاني باستقلال الازهر وانتخاب شيخه، فحتي لو كان هذا الأزهر "المستقل" علي خلاف مع سياسة الحكومة فإنه أفيد من أزهر طيع ممالئ لا يقوم بالدور العلمي الذي دأب علي القيام به علي مدي أكثر من عشرة قرون. الركيزة الثانية هي بعثات محمد علي إلي أوروبا وما أعقبها من تأسيس رفاعة رافع الطهطاوي لمدرسة الألسن وإعطاء قوة دافعة لحركة الترجمة جنبا إلي جنب مع الدور المهم لمطبعة بولاق والدور الاستثنائي الذي لعبته في مجال النشر. والركيزة الثالثة هي أن مصر كانت دائما بمثابة الملاذ للمثقفين العرب فعندما ضاقت الدنيا في وجوه المثقفين الشوام هربوا إلي مصر وأسسوا الصحافة والمسرح وأصبح هذا الاسهام جزءا لا يتجزأ من الثقافة المصرية بمعني أن إحدي ركائز الدور الثقافي المصري تمثلت في قدرته علي الاستيعاب. * هذا عن الماضي.. فماذا عن الحاضر؟ الصورة سلبية في نظر الغيطاني فالترجمة قد تراجعت رغم الجهود المبذولة، ونشر التراث تراجع هو الآخر والثقافة الأصولية استهدفت ضرب ركائز الثقافة المشار إليها وأصبحت السيادة لما يمكن تسميته ب"ثقافة الحفلة" ومثال ذلك وجود مهرجان سينما دون وجود صناعة سينما، أو بالأحري في ظل تدمير صناعة السينما، كما تم اختصار المثقفين وتراجع دورهم. محمد جلال عبدالقوي السيناريست المعروف قدم صورة تعيسة للدراما التليفزيونية التي كانت فيما مضي سفيرا لمصر في سائر أنحاء العالم العربي. الآن تغيرت المعادلة وتراجع تأثير الدراما التليفزيونية المصرية وسبب ذلك في رأيه أنها أصبحت تجارة رائجة حتي أن أكثر أنواع التجارة ربحا هي تجارة المسلسلات وتجارة المخدرات! ورغم "الانفجار" في إنتاج المسلسلات حيث تم إنتاج 72 مسلسلا في العام الماضي عرض منها في شهر رمضان وحده 36 مسلسلا فإنه ليس فيها أعمال جيدة أكثر من 4 أو 5 مسلسلات كما أنه ليس هناك كتاب جيدون وجادون أكثر من عدد أصابع اليد الواحدة وينطبق ذلك علي المخرجين الجادين أيضا. والمشكلة أنه ليس لدينا بدائل لهؤلاء. وتوقع جلال عبدالقوي أن تتفاقم المشكلة في ظل إنشاء فضائيات عربية كثيرة وبالتالي تزايد الطلب علي الدراما التليفزيونية ونظرا للوفرة المالية لدي كثير من هذه الفضائيات فإنها ستفرض ذوقها وقيمها مما سيكرس أزمة الدراما التليفزيونية المصرية ويقلص تأثيرها خارج حدود مصر. أما مشكلة الكتاب فليست أقل سوءا من الدراما التليفزيونية والصورة التي قدمها الدكتور وحيد عبدالمجيد سلبية إلي حد بعيد وما يجعلنا نتعامل مع هذه الصورة السلبية بشكل جدي هو أن وحيد عبدالمجيد إلي جانب صفته كباحث ومحلل وخبير ومثقف يشغل منصبا رسميا في قطاع النشر، فهو نائب رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب كما هو معلوم.