الحروب أنواع.. والحرب التي تدور رحاها في تونس الشقيق حرب شكلها مختلف عما نعرفه من أشكال الحروب.. انها الحرب ضد الحجاب.. وقد يدهش البعض من هذا الوصف، والسبب في الدهشة أن الفتاوي التي يطلقها الدعاة من كل صنف ومذهب وصدعونا بها ليل نهار البعض منهم يؤيد الحجاب والبعض الآخر معارض له وبعضهم وضع مواصفات لشكل الحجاب إلي أن وصلنا لما نحن فيه الآن من ارتباك في الرؤي والمفاهيم المتعارضة! وحرب الحجاب بدأت علي سطح الأحداث عام 1981 بين الحكومة التونسية من طرف وجماعات حركة الجهاد الإسلامي عندما نشرت مجلة "جين أفريك" التي تصدر من باريس أول تحقيق لها عن المحجبات في تونس حيث تحدثت الفتيات المنتميات إلي حركة الجهاد الإسلامي، في تحقيق المجلة المذكورة إلي المضايقات التي تمارسها السلطات في مواجهتهن.. وبعد ربع قرن، تغير المشهد تماماً، فالمحجبات لا ينطلقن من موقف سياسي، وغالبيتهن الساحقة لا تتعاطي السياسة ولا تحبها أصلا.. ولكن نفس المجلة عاودت نشر تحقيق جديد عن معركة الحجاب في الأسبوع الماضي بعنوان "معركة الحجاب في تونس".. ولم تذكر في التحقيق أي اسم لحركة الجهاد الإسلامي، أو الاسم الجديد له والذي تغير في عام 1988 إلي "حركة النهضة".. ما علينا. ويري البعض أن ظاهرة التحجب التي انتشرت بشكل واسع في تونس كان بسبب عدة عناصر مختلفة ساعدت كلها علي اعتبار أن ارتداء الحجاب وإطلاق اللحي هما يعدان ركنا من أركان الهوية.. وساعد في ذلك أيضاً أخبار الحروب التي تدور الآن في العراق وأفغانستان وفلسطين ولبنان بصفة تكاد تكون يومية واقتحمت البيوت في تونس بدون استئذان وذلك بسبب انتشار الفضائيات والتي بلغت المئات وتدور في السماء بلا رقابة من أي نوع ولا تستطيع الحكومات أن تمنعها، إلا في حالة ما قررت مصادرة الأطباق الموضوعة فوق أسطح المنازل. ويقول البعض إن الحكومة التونسية تشن حملة إعلامية واسعة في الوقت الحالي علي الحجاب وتعتبره زياً طائفياً دخيلاً ورمزاً للانتماء السياسي والتطرف الديني الذي يدعو للفتنة ويهدد مكاسب المرأة.. ولكل ذلك قررت تونس مقاومة ارتداء الحجاب مستخدمة التشريعات الموجودة أصلا، وردت علي من يطالبن بالاحتشام والمحافظة بأن تونس لها من أزياءها التقليدية في المدن والأرياف ما يشكل بديلاً أصيلاً وجميلاً ومتنوعاً ويوفر لكل من تبحث عن الاحتشام ملابس وأشكال بديعة من صنع إبداع العقلية التونسية عبر عقود طويلة من الصناعات الحرفية والتقليدية. ومع ذلك فإن أحد الكتاب يري في تحليل له نشرته جريدة الحياة اللبنانية التي تصدر من لندن يقول فيه: لقد طرح الحجاب في شكله الجديد قضايا سياسية وثقافية حادة لأنه جاء في سياق طفرة كان من علاماتها البارزة انتشار التيارات السلفية وتأثيرات الثورة الإيرانية وما ترمز إليه من تهديد لمكاسب المرأة ومحاولات فرض الحجاب التقليدي باسم الدين وعن طريق القمع والإكراه، لذلك صار الحجاب يرمز إلي التشدد الديني وإلي الانتماء لتيار سياسي بعينه.. ولايزال الحجاب يطرح حتي يومنا قضايا ثقافية وعقائدية تعود في جوهرها إلي القضية الأصلية التي تثار بشأن مسار تحديث المجتمعات الإسلامية وأهمها كيفية التعامل مع النص الديني بسبب ظاهره أو إعمال العقل لفهم مقاصد الدين وظروف نزوله وفرض أحكامه في الظروف التاريخية المتغيرة؟! وخلاصة وجهة نظر الكاتب أن السلطات التونسية تواجه قضية الحجاب بأسلوب لا يرقي في رأيه لعلاج قضية ثقافية تشغل بال الناس في تونس. ومع كل ذلك فإن وضع المرأة التونسية وهو ما يلاحظه كافة المراقبين للأحداث في تونس يعد من أفضل المستويات في العالم العربي والإسلامي ولا مثيل له..! ولما جاء الرئيس زين العابدين إلي السلطة في 7 نوفمبر 1987 سار علي نفس الطريق الايديولوجي والسياسي والثقافي الذي بدأ في عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة، وحافظ علي المكاسب التي حققتها المرأة التونسية. وأضاف إلي مكاسبها الكثير حيث أرسي نظام الملكية والشراكة بين الزوجين وحق الولاية ومنح المرأة جنسيتها لطفلها في حال الزواج من أجنبي وتشارك المرأة التونسية في وضع التشريعات للسلطة السياسية القائمة بوجودها في البرلمان ولها جميع حقوق المواطن.. وصارت تتقدم علي معظم النساء العربيات بالنسبة للتحرر والمشاركة في الحياة الاجتماعية والسياسية، وهي تشغل الآن طبقا للدستور أكثر من 20% من المقاعد في البرلمان التونسي. وللعلم فإن الرئيس الراحل بورقيبة كان يعتبر الحجاب "زياً طائفياً" وقد جاء ذلك في إطار بداية الحرب بين بورقيبة وحركة الإسلام السياسي التي قادت عملية نشر الحجاب ولذلك أصدر منشورا إداريا بحظر ارتدائه في الجامعات ومعاهد التعليم الثانوي. وقد أعاد الرئيس زين العابدين نفس الرأي وأكد عليه عند استقباله وزير الشئون الدينية وقال له: إن تونس المتمسكة علي الدوام بإسلامها الحنيف، حريصة علي تكريس قيمة الاحتشام وفضيلة الحياء وهي تعتبر ان تقاليدها في الملبس سواء في المدن أو في الأرياف كفيلة بتحقيق ذلك.. ولذلك فمن الضروري وتفاديا لكل تذمر يجب التفريق بين الزي الطائفي الدخيل والملبس التونسي الأصيل الذي يعتبر عنوانا للهوية. والسؤال المطروح الآن هو أن ارتداء الحجاب بات يتعارض مع توجهات الدولة؟! ويبدو أن الدولة قد حسمت الأمر وحرمت ارتداء الحجاب علي النحو الذي شرحته في رسالتي من تونس. وبعيدا عن الشعارات الدينية يجب توضيح عدة حقائق تبدأ بالحقيقة المهمة وهي أن تونس نجحت في أن تخترع لنفسها تجربة ديمقراطية وتعددية فريدة من نوعها تجمع فيها بين التطور والاتزان ونجحت بالفعل من الإفلات من حالة الانتكاس والتراجع لأن ديمقراطيتها ترتكز علي ركيزتين هما نضج الشعب مع تطور وعيه السياسي، إلي أن وصل إلي مرحلة متقدمة في الحياة السياسية المتطورة..! فمثلا كانت هناك رئاسة مدي الحياة وبرلمان الحزب الأوحد وتغير كل ذلك إلي نظام سياسي يقر بتعددية الترشح للانتخابات الرئاسية وأحزاب تمثل في برلمان متعدد الآراء والاتجاهات! انها قفزة عملاقة في الحياة السياسية وكل ذلك حدث في وقت قصير ولكنه عظيم يميز بين عهدين.. عهد بورقيبة وعهد زين العابدين بن علي. إن الشعب التونسي مازال يتذكر أبدية الرئيس الراحل بورقيبة في منصب الرئيس ولكن مع عهد الرئيس زين العابدين تغيرت الأمور وتبدلت الأحوال وأعاد الاعتبار إلي قيم السيادة وحرية الاختيار وأقام نظاما سياسيا أقر التعددية وأصبح للمواطن التونسي الحق في اختيار من يحكمه سواء من يجلس في مقر قرطاج أو من يشرع له قوانينه من مجلس النواب. أما معركة الحجاب أو تعبير آخر حرب الحجاب، فلولا الحرية التي يتمتع بها المواطن التونسي ما عرفنا ما يسمي بحرب الحجاب. إن ارتداء الحجاب أو خلع الحجاب صار قضية هزلية وأصبح العالم ينظر إلينا باعتبارنا أضحوكة! يرحمنا الله في الدنيا والآخرة..!