كان البروفيسور محمد يونس أستاذا جامعياً عاديا شأنه شأن آلاف مؤلفة من الأكاديميين في بنجلاديش، وامثالها من البلاد المنكوبة بالفقر. حتي جاء يوم ما عام 1974 اصطحب فيه يونس طلابه بجامعة "تشيتاجونج" في رحلة ميدانية إلي ريف بنجلاديش، ويبدو ان الرجل كان يعيش في برج عاجي حتي هذه اللحظة برغم انه كان يرأس البرامج الاقتصادية الريفية بالجامعة، لأن هذه الزيارة الميدانية غيرت مجري حياته بعد أن رأي في الحياة الواقعية قسوة الفقر الذي ينشب أظافره وأنيابه في أجساد الفلاحين الغلابة. وبعد أيام خاصمه فيها النوم برقت في ذهنه فكرة بسيطة للغاية مفادها انه يمكن بقروض صغيرة إنقاذ حياة أسر مهددة بالانهيار وإلي تغيير جذري لمصير الفقراء. وبمبلغ يعادل 27 دولاراً بدأ البروفيسور تجربة اقراض مجموعة من الإناث اللاتي تعملن في صنع السلال من سيقان النباتات لتوسيع أعمالهن. وسرعان ما كبرت الفكرة وتحولت إلي نواة لانشاء بنك "جرامين" عام 1983 لتوسيع نطاق منح القروض الصغيرة لفقراء الريف وبالذات السيدات. واسم البنك "جرامين" يعني باللغة البنغالية "بنك القرية" وتقوم فلسفته - التي هي فلسفة البروفيسور - علي مساعدة الفقراء علي مساعدة أنفسهم. اما من لايريد ان يساعد نفسه فلا مكان له في عالم محمد يونس الذي يرفض حتي اليوم الاستجابة لأي متسول يمد يده بالسؤال والاستمرار عالة علي الغير. وتطورت فكرة "بنك القرية" وامتدت خارج حدود بنجلاديش واصبحت مؤسسة "جرامين" تقدم خدماتها لملايين الفقراء في بلدان شتي. ومع تطور أعمال هذا البنك الفريد من نوعه ازداد ايمان محمد يونس بالقضاء علي الفقر في العالم، وعبر عن ذلك بقوله ان "جرامين رسالة أمل.. وبرنامج لوضع التشرد والعوز في متحف حتي يزوره أطفالنا يوما ما ويسألون: كيف سمحنا لهذا الشيء المفزع بأن يستمر طوال هذه الفترة". وها هو يحصل علي جائزة نوبل للسلام هو وبنكه الذي تعرض عند انشائه لسخرية فلاسفة البنك الدولي. وحصول البروفيسور يونس علي جائزة نوبل لا يمثل فقط تكريما مستحقا لهذا الرجل وتجربته المتميزة، وانما يمثل اعترافاً بأن الفقر تهديد خطير للسلام العالمي. وهذا الاعتراف - بدوره - يعيد فتح ملف الفقر. واذا كان هذا الملف قديما قدم البشرية ذاتها، فان معالجته اختلفت من عصر إلي آخر. فقد كان في قديم الزمان يعتبر ظاهرة "عادية" و"طبيعية" يكفي تخفيف حدتها ب "إحسان" الأغنياء علي الفقراء. لكن هذه النظرة فقدت جدارتها ومصداقيتها تدريجياً، وحلت محلها نظرات بديلة من منطلقات أخلاقية وانسانية. ثم انتقل الاهتمام بالفقر والفقراء إلي التحليل العلمي في القرن العشرين، وعلي عكس النظرة القديمة التي ادعت ان الفقر ظاهرة "طبيعية" و"عادية" اوضح التحليل العلمي أن الفقر "جريمة" واذا كان الفقراء هم ضحايا هذه الجريمة فان لها "جناة" معروفين بالأصل والفصل، وأوضح التحليل العلمي كذلك ان هؤلاء "الجناة" ليسوا فقط حفنة من قساة القلوب "الوطنيين" أي من أهل البيت، بل هم ايضا دول كبري ومؤسسات دولية لها "شنه ورنه" وشركات عابرة للجنسيات. والأدهي والأمر أن هذه الظاهرة المروعة تزداد اتساعا وحدة رغم التقدم المستمر للعالم عاما بعد آخر، حتي ان الأممالمتحدة حذرت من تفاقم مشكلة الفقر في دول العالم الأشد فقرا ما لم يتم تعظيم النمو الاقتصادي فيها وما لم تقم الدول الغنية بواجباتها ازاء هذه الدول المنكوبة، وتنبأ تقرير ل "الاونكتاد" بأن من يعيشون علي اقل من دولار يوميا في 49 من افقر دول العالم سيزدادون بنسبة 30% ليصل عددهم إلي 420 مليون نسمة. وبعد ان قامت الدول الكبري بنهب مقدرات دول العالم الثالث اثناء الفترة الاستعمارية بصورة سافرة فانها واصلت هذا النهب بعد فترة الاستعمار القديم بصورة متعددة من بينها مصيدة الديون، وبهذا الصدد تبين الدراسات انه منذ بداية احتدام أزمة الديون عام 1982 حتي عام 1990 وعلي مدار 108 أشهر، تم نزح 6.5 مليار دولار شهريا من البلاد المديونة في الجنوب إلي البلدان الدائنة في الشمال، علما بأن هذا المبلغ يمثل فوائد الديون فقط، ولو أضفنا إليه أقساط الدين لاصبح اجمالي المبلغ المدفوع 45 مليار دولار! واذا أعدنا حساب هذه المبالغ التي تم نزحها من الجنوب الفقير إلي الشمال الغني لوجدنا انها تكفي لتقديم ألف دولار لكل رجل وامرأة وطفل في دول الشمال لمدة تسع سنوات، بينما تبين الاحصائيات ان كل طفل افريقي يولد اليوم مدين بحوالي 350 دولارا للدول الغربية، وان ديونا ضخمة تراكمت بمرور الوقت علي نحو 58 دولة نامية وصلت إلي ما يزيد علي 2.2 تريليون دولار في العام الماضي وفقا لتقرير صندوق النقد الدولي، ونتيجة لهذه المديونية الثقيلة تدفع الدول الفقيرة يوميا ما يقرب من 700 مليون دولار خدمة للدين، أي ما يعادل 500 ألف دولار في الدقيقة تأخذها الدول الدائنة من فقراء الجنوب.