فجأة قررت الدولة ان تبحث عن محدودي الدخل!! فنحن محاصرون هذه الأيام بتصريحات حول اجراء استطلاعات وبحوث ميدانية للتعرف علي محدودي الدخل المستحقين للدعم.. والدعم هنا ليس فقط الدعم السلعي يعني الخبز والارز والسكر.. لكن سيمتد ايضا الي التأمين الصحي الشامل وخلافه.. هذا اذا صدقت الروايات والسياسات. لكن ما يستفزنا حقيقة هو تلك الدولة التي استيقظ مسئولوها ذات صباح ليكتشفوا انهم لا يعرفون من يحكمون.. ولا يعرفون مكونات الشعب الذي يطبقون عليه سياسات الاصلاح التي تستهدف المواطن في المقام الاول.. هذا اذا كان الهدف بالفعل هو الاصلاح وليس المد في عمر الحكومة ومسئوليها.. فالحكومة يا سادة تعترف بانها لا تعرف مكونات الشعب.. ولا تعرف من يستحق الدعم ممن لا يستحقه.. طوال تلك السنين.. هي تعرف طبعا كم عدد الاغنياء من هذا الشعب.. فهؤلاء هم من تتعامل معهم الحكومة يوميا اما عن طريق مشاريع، أو طلبات، او تسهيلات او حفلات وخلافه.. لكنها لا تعرف من هم الفقراء بالضبط، يعني اسماءهم ومحلات سكنهم واشغالهم، كي يصل الدعم لمستحقيه ولا يتسرب الي الوسطاء كما كان الامر لسنوات طوال.. تلك هي النظرية الحكومية. والحقيقة ان النظرية في ظاهرها رحمة لكن باطنها يصيب بالاكتئاب بل ويضرب عرض الحائط بالجملة الشهيرة "الحكومة تعرف اكثر".. فالحكومة طلعت لا تعرف، والنظام بكل ادواته طلع لا يعرف.. بل ان الشعب المصري بكل فئاته يبدو انه غير مسجل لدي الدوائر العليا كي تتعرف اجهزة الدولة علينا.. وعن حالتنا.. فتعرف من يستحق الدعم والتأمين ممن لا يستحق. وفي الستينيات من هذا القرن - كما سمعنا وقرأنا - كان لكل مواطن ملف "غالبا عند اجهزة الامن" يرصد تحركاته وسكناته وتفاصيل مكالماته الهاتفية اما في عصور الديمقراطية التي نعيشها الان فالملفات ماتزال موجودة طبعا.. ولكنها جميعا ملفات تهتم فقط بمن مع او ضد النظام.. لكنها لا تهتم كثيرا بحال المواطن ومشاكله. هذا البحث - الذي نشكر الدولة أخيرا انها قررت ان تقوم به للتعرف علي مكونات الشعب واحواله يطرح تساؤلات كثيرة: كيف كان إذن يقدم الدعم طوال تلك السنوات؟ وكيف كانت اجهزة الدولة تتعامل مع المواطن وهي لا تعرف احواله؟ وهل يعني ذلك ان الحكومات المتعاقبة هي فعلا حكومات علي شعب لا تعرفه؟ وهل كل السياسات السابقة كانت تقوم علي نظريات في المطلق بدون دراسة تطبيقها لان الشعب غير موجود؟! اجابات الاسئلة السابقة تحمل في طياتها التفسير الوحيد لكل الاخفاقات التي مررنا بها طوال عقود من الزمان. وطبعا البحث عن احوال المواطن او عن محدودي الدخل يحتاج الي اشهر بل سنوات طويلة.. تطيل من عمر السادة الوزراء علي مقاعدهم.. فالاستطلاعات ستمر علي بيت بيت وقرية قرية، وعشة عشة للتعرف علي اوضاع الناس.. وكأن كل الاحصاءات وتعداد السكان وخلافه لا صحة لها علي الاطلاق.. فلنبدأ من جديد!! ونحن طبعا ندعو للحكومة واجهزتها المختلفة بان تكلل جهودها بالنجاح في التعرف علي الشعب المصري للمرة الأولي واكتشاف الفقراء - عفوا محدودي الدخل - من الاغنياء او اصحاب الطبقة المتوسطة الذين اختفوا تقريبا.. فذلك كله في مصلحتنا جميعا. فإذا وجدت اجهزة الدولة صعوبة في الدخول الي العشوائيات او مشاهدة مناظر قد تؤذي عيون الباحثين الشباب، فيمكن ان تقترح علي كل مواطن ان يرسل بخطاب تعريف بنفسه الي وزارة التضامن الاجتماعي المسئولة عن اجراء البحوث يبدأه بالسلام وبجملة: مساء الخير انا المواطن مصري فلان الفلاني. وربما لسرعة انجاز الامور يمكن لتلك الاجهزة القيام بعملية حسابية بسيطة مثل التي ادرب عليها ابني الصغير نور وهي: اطرح عدد الاغنياء من اجمالي عدد سكان مصر فتكون المحصلة عدد الفقراء.. النتيجة عندها قد تكون مذهلة.. فأغلب هذا الشعب من الفقراء. وشكرا لجهد اجهزة الدولة في التعرف علينا نحن سكان المحروسة.. التوقيع: مواطن لا يريد دعم الدولة خالص لكن نطلب الرحمة.. عمر أفندي وإخوته: تقرير لجنتي الخطة والموازنة والاقتصادية بمجلس الشعب ربما يكون قد اغلق ملف الجدل حول بيع عمر افندي باقراره لسلامة اجراءات التفاوض حول البيع.. لكنه ذيل توصياته بجملة توقفت امامها حيث تكشف ان الجدل حول برنامج الخصخصة "بيع الاصول" لن ينتهي.. تقول الجملة: إن سياسات الخصخصة لابد ان تستهدف تحقيق المزيد من الاستثمار مع تعظيم كفاءة استخدام الموارد وتحقيق اكبر عائد ممكن للخزانة العامة.. ونضيف "ان تحقيق تلك الاهداف يستوجب ان تبذل الحكومة باجهزتها الجهد لتطوير وتحسين اقتصاديات ما تنوي بيعه من اصول وذلك قبل عرضها للبيع.. كما قد تستوجب في بعض الاحيان اتباع اساليب اخري خلاف البيع". وتكاد تلك الجملة تفتح الملف من جديد.. فهي تدين بشكل غير مباشر البيع مع تردي حال الاصول، بل وتوجب علي الدولة "وهنا وزارة الاستثمار والمجموعة الاقتصادية" تحسين اقتصاديات المشاريع قبل بيعها.. بل وتطلب الا تقتصر أساليب إدارة الأصول علي البيع والبحث عن اساليب اخري. فإذا كانت طريقة بيع عمر افندي طبقا للقواعد واللوائح والقوانين تبدو سليمة، فان المجلس يري انه لابد من تغيير الاساليب وبذل جهد اكبر ليتحول البرنامج بحق الي ادارة اصول وليس الي برنامج بيع فحسب. تلك الجملة التي ذيلت توصيات التقرير تؤكد ان الحكومة قد تكون تتخذ كل الاجراءات السليمة.. الا انها عجزت عن اقناع المجلس بان سياستها في الخصخصة تحقق اكبر عائد للخزانة، او تعظم استخدام الموارد والمشروعات المتاحة. اما المشكلة الاكبر.. فهي ان الحكومة قد عجزت بالفعل عن اقناع المواطن بفوائد الخصخصة "او ادارة الاصول" فهو لا يشعر لا بعائدها ولا بارتباطه بنجاحاتها.. حتي لو كان ذلك العائد موجودا بالفعل، لكن استخدامه في سد عجز الموازنة او حتي في تنظيف محفظة ائتمانية لبنك مثل الاسكندرية لا يرتبط بشكل مباشر بالمواطن. ولا خلاف هنا علي المبدأ الاقتصادي.. فسداد الديون قد يكون اولي من اقامة مشاريع جديدة وبيع بنك الاسكندرية سيحقق عائدا هو الاخر.. لكن بعض المبادئ الاقتصادية تحتاج لشيء من السياسة لتربط المواطن باهداف الدولة.. هذا اذا كنا نهتم - بأدني درجة - برأي عام ومواطن يؤيد خطوات الاصلاح.. اما اذا كانت القضية سياسات سيتم تطبيقها وخلاص.. فيجب ألا نشغل انفسنا كثيرا لا برأي عام ولا بتقرير مجلس شعب. نقطة فاصلة: اخشي ان تنفق الدولة اموالا طائلة بحثا عن محدودي الدخل.. ثم تخرج علينا الابحاث لتؤكد بالارقام والبراهين انهم غير موجودين علي الاطلاق.. وان الحكاية مجرد شائعة!!