حتي عام 2004 لم يكن أحد قد سمع عن شركة البتروكيماويات الصينية "تشيم تشاينا جروب" لسبب بسيط هو أنها لم يكن لها وجود.. وفي ذلك العام أنشأت السلطات في بكين شركة الصين الوطنية للكيماويات كشركة حكومية ذات ثمانية فروع منها خمسة مسجلة في البورصة وفي غضون عدة شهور بدأت الشركة تعولم نشاطها وتشتري شركات أخري في أوروبا واستراليا. وتقول مجلة "نيوزويك" إنه كان مفترضا أن مستقبل العولمة سوف يشهد سيادة القطاع الخاص ولكن الشركات الحكومية تقودها شركات الصين وروسيا راحت تتخذ أوضاعا سيطرت داخل بلدانها وتعمل في نفس الوقت علي عولمة نشاطها لمنافسة الشركات الخاصة متعددة الجنسيات علي الفوز بثمار العولمة. لقد شهد العالم منذ نحو ربع قرن أو يزيد موجات من الخصخصة ونحن الاَن أمام موجات معاكسة تقودها شركات حكومية.. وفي بلدان أخري مثل سنغافورةودبي "دولة الإمارات العربية" وفنزويلا تسعي تلك الشركات الحكومية بقوة إلي عولمة أنشطتها.. وقد طفت علي السطح في الفترة الأخيرة الحساسية الأمريكية التقليدية تجاه علاقة الشركات بالحكومات وتحركت قوي الضغط الأمريكية بكثافة مرتين، مرة لكي تمنع شركة حكومية صينية من شراء شركة يونوكال ومرة أخري لمنع شركة دبي من إدارة 6 من المواني الأمريكية.. ولكن هذه الحوادث لم تمنع استمرار وتنامي الاتجاه إلي عولمة الشركات الحكومية. ومنذ بدأ دينج هيساو بنج عصر الانفتاح علي الرأسمالية في الصين عام 1978 تدفق الأجانب علي هذا البلد متصورين أن الاقتصاد الصيني سيقع في النهاية في يد القطاع الخاص.. ولكن السلطات الصينية لم تسلم قط بهذه الفرضية بل تقول دائما إنها تبني اشتراكية ذات خصائص صينية وهي في الحقيقة شكل من أشكال رأسمالية الدولة التنافسية. ورغم أن موجات الخصخصة لاتزال مستمرة في الغرب بما في ذلك بلدان مثل فرنسا التي يوجد فيها قطاع عام كبير مملوك للدولة فإن البلدان الأخري تكثف من تملك الحكومات لكثير من الصناعات التي تتراوح بين صناعة المال وصناعة السيارات.. وفي بلد مثل روسيا استخدم الرئيس بوتين شركة جازبروم الحكومية التي تحتكر الغاز الروسي من أجل تكثيف الضغوط علي جيرانه في أوكرانيا وجورجيا ولذلك يعلن الرئيس بوتين عادة أن الحكومة الروسية ستبقي مسيطرة علي كل القطاعات الاستراتيجية في الاقتصاد. وفي بلد مثل فنزويلا استخدم الرئيس هوجو شافيز شركة البترول الحكومية لتمويل سياساته الاقليمية ودعم أنظمة الحكم في كل من الأرجنتين والبرازيل وكوبا وحتي مساعدة الأسر الفقيرة في فيلادلفيا بالولايات المتحدة. وتقول مجلة "نيوزويك" إن صعود الشركات المملوكة للدولة يتجاوز قطاع البترول إلي غيره من قطاعات الاقتصاد الأخري.. وتعد بلد مثل سنغافورة نموذجا لرأسمالية الدولة حيث تملك حكومتها ذراعا استثمارية قوية هي شركة تيمازيك التي تعمل علي عولمة نشاطها في مجالات كثيرة منها المجال المصرفي.. وفي روسيا تملك جازبروم ذراعا إعلامية تشتري الصحف ومحطات التليفزيون.. أما شركة دبي فهي نموذج اَخر للنجاح ليس في إدارة المواني فحسب وإنما في إدارة شركات الطيران أيضا حيث تملك شركتين ناجحتين إحداهما في دبي والثانية في سنغافورة. ونجاح الشركات المملوكة للحكومات علي النحو سالف الذكر يطرح إشكالية حول الرأسمالية الحديثة وهي كيفية تحقيق التوازن بين الملكية الخاصة والملكية الحكومية.. ويلاحظ جاري رودان مدير مركز أبحاث اَسيا بجامعة ميردوخ باستراليا أن الشركات الحكومية الصاعدة تركز أنشطتها التركزية في الداخل والخارج علي السواء في ذات القطاعات التي كانت ذات يوم مسرحا للخصخصة علي يد مارجريت تاتشر ورونالد ريجان في القرن الماضي وتركز هذه الشركات أيضا علي مشروعات البنية الأساسية ذات الأثر علي التجارة العالمية مثل المواني ومعامل تكرير البترول وشركات الطيران وشركات الاتصالات وشركات الخدمات المالية بمختلف أنواعها. وفي بلد مثل الصين تستخدم الاحصاءات للتشويش علي ما تحرزه الشركات الحكومية من انتصارات وما تحققه من إنجازات، فالأرقام الرسمية تقول إن إسهام الشركات الحكومية في إجمالي الناتج المحلي الصيني قد انكمش إلي 17% فقط بعد أن كان أكثر من 80% في عام 1978 ولكنّ كثيرا من المحللين يرون أن هذه الأرقام في الحقيقة مضللة لأنها تستبعد كل المشروعات المشتركة من القطاع المملوك للدولة.. وهناك تقديرات تشير إلي أن الشركات الحكومية الصينية لاتزال تسهم بنحو نصف إجمالي الناتج المحلي الصيني، وليست مصادفة أن يكون للصين 22 شركة ضمن قائمة فوربز لأكبر 2000 شركة عالمية وأن تكون كلها غدا واحدة فقط مملوكة للدولة أو ذات علاقة بها وبعكس ما هو متصور فإن قطاع الدولة في الصين هو القطاع الأسرع نموا وتستأثر شركاته بمعظم القروض والتسهيلات المصرفية بل إن من بين 1600 شركة مسجلة في بورصة بكين لا توجد سوي 50 شركة فقط أو أقل مملوكة ملكية خالصة للقطاع الخاص. غاية القول إن إجراء مسح صادق لأوضاع الاقتصاد العالمي سيكشف عن تنامي ظاهرة رأسمالية الدولة وعولمة الشركات المملوكة للحكومات وإن هذه الشركات صارت منافسا لا يمكن تجاهله للشركات الخاصة متعددة الجنسيات علي الفوز بنصيب أكبر من كعكة العولمة.. وهي ظاهرة تدعو إلي التفكر والتدبر وتلقي بظلالها علي برامج الخصخصة الواسعة التي تتبناها كثير من البلدان في العالم الثالث.