اقتصاد نفسي تظل فايزة عبدالمنعم مسئولة قاعة العروض التشكيلية هي الانسانة الحساسة التي تجيد ما تقدم من عروض وكأن تواجدها لسنوات في هذا المبني قد اضاف لعيونها واحاسيسها قوة نادرة علي اكتشاف ما يجب ان يراه الجمهور الراقي. وجمهور الاوبرا هو ارقي جمهور في مصر كلها لا لأنهم المثقفون واصحاب المناصب الرفيعة فقط ولكن الان الغالبية منهم هم الجيل الشاب فكما يتزاحم الشباب علي دروس عمرو خالد هم يتزاحمون ايضا علي حفلات محمد منير والموسيقي العربية والموسيقي الكلاسيك اي ان هناك اجيالا جديدة تغسل روحها بعميق الفن القادر علي تطهير النفس. ويأتي معرض الفنان الكبير محمد صبري سيد الباستيل في زماننا بل اكاد اقول انه رجل من زمن اراد ان يروض الوحش الناعم واعني به فن التصوير بالباستيل والباستيل - كما نعرف - هو تلك الاصابع الملونة التي تتشابه مع الطباشير ويمسك بها المصور الرسام ليحكي حكاية النور الظل والحقيقة والخيال ولا احد بقادر علي تجميد الزمن بحيويته في لوحة ما قدر الرسام المصور. واذا كان محمد صبري - امد الله في عمره - سيدق في نهاية ديسمبر القادم ابواب العام الثمانين في تلك الارض فعلينا ان ننظر الي لعبته مع الزمن من خلال لوحاته كي نري بأي عظمة عاش هذا الرجل الذي يصطاد - بالمهارة والدقة الفنية المميزة - لون الشمس وهي تشكل في عيوننا البيوت الاسبانية ووجوه غرناطة وملامح المغرب بكل ما يحمل لنا عبير الماضي الذي مازال حيا في العمارة والميادين وملامح النساء والرجل. عشق محمد صبري ملامح اسبانيا وكانه قد جاء من نسل موسي بن نصير فاتح الاندلس او كأنه فرعون جديد قد ولد في اوائل القرن العشرين ويرغب في اكتشاف ما قدمته حضارة مصر من الالوان الي الحضارة العربية ومن خلالها الي اوربا كلها وكأنه اراد ان يسترد خيوط الضوء القديمة المعلقة التي تبرز المآذن والجوامع والقصور واساليب الحياة الرغدة في الاندلس تلك الحياة التي اعتبرتها اوربا في الازمنة القديمة رجسا من عمل الشياطين القادمين من المشرق. ومن يقرأ ويري لوحات هذا الفنان يمكنه ان يشعر كيف روض هذا الضئيل الجسم الكبير الروح تلك الوحوش التي يصعب عليها الاستقرار علي الورق واعني بها مادة الباستيل فيحيلها الي خلود لا ينفد عطره علي مرالايام وقد تكون الاجيال الجديدة غير معتادة علي مثل هذا الاخلاص الدقيق في العمل الفني وقد لايتعرف الرائي لبعض مما يحترفه فنانون معاصرون من تزوير للوحاتهم عن طريق تصوير المشهد فوتجرافيا ثم ينقلونه من جديد وهو ملون بينما المصور الحق هو من يلتقط بعيونه ومشاعره المشهد الذي يصوره بالالوان ليخلده علي اللوحة ببصيرته لا بتقليد للكاميرا وهو ما يتقنه محمد صبري ويعرف كيفية هذا الابداع بشكل مكتمل. وقد يقال ان التاريخ قد تجاوز نقل الطبيعة او الوجوه وصار الفنان الان هو من يرسم ما يراه علي جدران روحه من انفعالات ولكني اقول ان الفن المتميز يخترق كل القوالب بل يمكن له استخدام القديم جدا من اساليب ليجعله شديد المعاصرة وهذا ما يمكن لك ان تراه في معرض محمد صبري الاخير ويا ايها الفنان المبدع عشت لنا بكل هذا الاخلاص الصوفي لتلك المادة الشرسة التي تستخدمها في رسم وتصوير لوحاتك فيبدو لنا القديم جديدا وقويا ومعاصرا ومفعما بالحيوية.