حينما جرت محاكمة المفكر الفرنسي روجيه جارودي في إحدي المحاكم الفرنسية تحت دعوي إزدراؤه لليهودية في كتابه عن المحارق الهتلرية لليهود والهيلوكوست، رفضت وزارة الخارجية الفرنسية أيامها الاحتجاجات التي قدمها كثير من المثقفين حول انحياز فرنسا لإسرائيل. وأيامها أعلن المتحدث باسم الخارجية الفرنسية أن الدستور الفرنسي يعتبر أي إزدراء بالأديان أو بالأعراق هي جريمة يعاقب عليها القانون ولا تدخل ضمن حرية التعبير، فإعلان الرأي الحر والاختلاف حول قضايا كثيرة بما فيها الدين شيء وازدراء الأديان شيء آخر.. ورغم أن روجيه جارودي ومحاميه دفعوا بعدم إزدراء اليهودية كدين مع إدانة الصهيونية كنظرية توسعية قائمة علي أساس عنصري، إلا أن محكمة باريس أصدرت أيامها حكماً بالسجن والغرامة علي المفكر الفرنسي الذي كان قد تجاوز الثمانين عاماً. والفرنسيون الذين يعترون بأن دستورهم وقوانينهم لا تعترف بالتابوهات والمحاذير وتدفع بحرية الرأي والتعبير إلي شطآن بلا حدود، ويدركون في نفس الوقت أن حرية الرأي والتعبير والاختلاف تتحول إلي جريمة حينما تتحول إلي شكل من أشكال قهر الآخر وازدرائه علي أساس اللون أو الدين والعقيدة. ومن هنا تأتي الجريمة التي ارتكبتها الصحيفة الدنماركية والنرويجية والفرنسية التي نشرت رسوماً كاريكاتورية عن شخصية الرسول الكريم باعتبارها خروجاً عن حرية الرأي والتعبير إلي محاولة التحقير والازدراء بالدين الإسلامي الذين يدين به أكثر من مليار إنسان علي الكرة الأرضية، فالأمر هنا لا يتعلق بقضية تقديم اعتذار من الصحف التي نشرت جسد الجريمة أو حتي من الدولة التي سمحت بذلك، ولكنه يتعلق بحرية العقيدة والتعبير. وفي المناقشات المطولة التي جرت في دول الاتحاد الأوروبي طوال أربع سنوات حول مشروع الدستور للاتحاد، كانت هذه القضية مطروحة وبشدة، وكان هناك رأيان، رأي تتزعمه بعض الدول الكاثوليكية مثل إيطاليا وأسبانيا ويطالب بأن يوضع في الدستور نص يحمي ما يسمي بالقيم المسيحية اليهودية التي تقوم عليها الحضارة الأوروبية الحديثة، بينما عارضه عدد آخر من الدول العلمانية مثل فرنساوألمانيا وإنجلترا وأسبانيا وهولندا، الذين رأوا في النص المقترح تفضيلاً للمسيحية علي الأديان الأخري وهو ما يعتبر مساساً بحرية العقيدة واقترحوا النص الذي دخل بالفعل في مشروع الدستور رصد العمل علي حماية القيم الإنسانية وعدم المساس بالأديان وحرية الاعتقاد. وفي كل دساتير الدول الأوروبية والدول المتحضرة نص يعطي الحقوق المتساوية للمواطنين بغض النظر عن العرق والجنس والدين واللون، ويعتبر تحقير وازدراء أي شخص علي أساس ديني أو عرقي خروجاً علي القانون لابد من معاقبة صاحبه، أي إن حرية الاعتقاد والتعبير تنتهي حين يحاول أي إنسان فرض آرائه وأفكاره بالقوة أو بالعنف أو باستخدام أساليب تحط من شأن الآخر لأسباب دينية أو عرقية. وتحتفظ محاضر جلسات القمم الأوروبية الأربع التي عقدت لمناقشة مشروع دستور الاتحاد الأوروبي قبل طرحه للاستفتاء أو علي برلمانات دول الاتحاد ان هناك مشاورات كثيرة جرت للتفريق بين حرية الرأي والعقيدة وبين المساس بعقائد الآخرين. وحينما تحمس رئيس وزراء إيطاليا في إحدي القمم الأوروبية لضرورة النص علي القيم المسيحية اليهودية في مشروع الدستور الجديد تحت دعوي أن هذه القيم هي التي صنعت الحضارة الأوروبية الحديثة، رد عليه الرئيس الفرنسي جاك شيراك في تهكم واضح، يبدو أن السيد بيرلسكوني يطمح في أن يتولي منصب البابوية إضافة لرئاسته لنادي ايه سي ميلان، أما المستشار الألماني السابق جيرهارد شرويدر فقد انتقد الحماس الكنسي الذي أبداه أيامها الرئيس البولندي مؤكدا أن الكنيسة لن تحكم العالم أو حتي أوروبا فهناك الجامع الإسلامي والمعبد اليهودي والمعابد البوذية والكونفوشيوسية، ولا يجب أن تكون هناك أفضلية لأحد علي الآخر في هذا الشأن علماً بأن أكثر الديانات انتشاراً في العالم هي الكونفوشيوسية تليها البوذية. وأذكر أنني حينما كنت أعمل مراسلاً متجولاً في ألمانيا وأوروبا في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أنه جري حوار ساخن بعض الشيء بيني وبين ألماني كان يقود عربته علي الطريق السريع لأنه كان يتعمد مضايقتي بعربته والحرص علي ان يسبقني بأي شكل وكأننا في سباق للسيارات، وحينما لفت نظره إلي أن أفعاله ممكن أن تؤدي إلي كارثة علي الطريق، قال لي وبصوت عال: إياك أن تحاول أن تسبقني أيها الملون الجنوبي، مكانك في الخلف. يومها توقفت عند أول تليفون علي الطريق واتصلت بالشرطة وأبلغتهم بما جري وبرقم سيارة الراكب الألماني الذي أوقفوه وواجهوني به مع فتح محضر رسمي ضده لأنه قال وفعل أشياء تعتبر عنصرية وفيها ازدراء وتحقير عرقي، واكتشفوا بعد ذلك أن الرجل له تاريخ طويل مع بقايا الأحزاب النازية في ألمانيا. ولاشك أن الرسوم الكاريكاتورية حول شخص الرسول الكريم صلي الله عليه وسلم والتي نشرتها صحف نرويجية ودنماركية هي تعبير عن هذا الالتباس الذي جري خلال العقد الماضي حين روج بعض المفكرين والعنصريين في الغرب الأمريكي والأوروبي لنظرية صراع الحضارات والأديان، وقد قسم صموئيل هنتنجتون أستاذ الجامعة ومنظر الخارجية الأمريكية العالم إلي سبعة أقاليم ثقافية علي أساس جغرافي وديني وجعل السيادة معقودة للغرب الأوروبي الأمريكي وما سماه بالقيم المسيحية واليهودية في حين أدان الكونفوشيوسية والهندوكية والإسلام بأنها حضارات وثقافات تفتقر إلي الديموقراطية وتمثل خطراً علي الغرب الأوروبي والأمريكي. إن أفكار هنتنجتون وتداعياتها حول صراع الثقافات والأديان هو الذي أشعل نيران الكراهية والوقيعة وأعطي الفرصة للمتطرفين من كل عرق ودين بأن يكون لهم الصوت الأعلي والمدمر ابتداءً من بوش إلي بن لادن إلي كل هؤلاء الأصوليين الذين يرفعون الشعارات المتطرفة ويعملون علي أن يغرق العالم كله في صراع ديني وعرقي. وهي شعارات تحاول أن تستغلها وتستثمرها الرأسمالية الفجة والجامحة التي تسعي إلي السيطرة والهيمنة، ولاشك أن رد الفعل القوي والإيجابي خاصة فيما يتعلق بمقاطعة البضائع الدنماركية والنرويجية بل والوصول إلي مقاطعة اقتصادية، هو سلاح حضاري نستطيع من خلاله أن نعيد التوازن وتصحيح المعادلة الخاطئة في تأكيد حوار الحضارات وتكاملها، والويل لمن يحفرون أو يزدرون الإنسان لأسباب دينية أو عرقية.