فى ضمير ووجدان أى أمة تستقر العديد من الأساطير التى تشكل وعيها، وتربطها بالماضى، وتحاول تفسير الحاضر باعتباره نتاج هذه الأساطير التى تقوم أحيانا بدور التاريخ، لكنه على مدار التاريخ، سواء الواقعى أو الأسطورى، لا توجد أمةُ تماهت مع أساطيرها وتفاعلت معها كما فعلت إسرائيل، هذا الكيان الذى يقوم فى مجمله على مجموعة من الأساطير، قام بتصديرها إلى العالم، وعمل لعشرات السنوات على طرحها مكان الحقيقة. وهذه الأساطير ربما يكون أحدثها المفكر المصرى الإسبانى الأصل «موسى بن ميمون»، الذى تسعى إسرائيل الآن إلى تحويل المعبد الخاص به لوقف صهيونى فى قلب مصر، وقد تبدت نيتها تجاهه فى الأحداث الأخيرة التى أعقبت ترميم هذا المعبد على يد هيئة الآثار، حيث احتفلت الطائفة اليهودية بمشاركة حاخاماتها وسفير إسرائيل بافتتاح المعبد، بشكل أثار استفزاز مشاعر المسلمين فى كل أنحاء العالم، بالرقص والمشروبات الروحية، فى الوقت الذى أعلنت فيه إسرائيل ضم الحرم الإبراهيمى بالخليل، ومسجد بلال بن رباح ببيت لحم لقائمة التراث اليهودى. وسواء كان «بن ميمون» مفكرا مسلما، كما يؤكد العديد من المفكرين والمؤرخين، أو إسلامى الفكر والثقافة كما يدعى اليهود ويوافقهم مؤرخون آخرون، فإنه سيظل شخصية مصرية، وسيظل معبده أثرا مصريا، لن تفلح الشائعات أو الأساطير الموجهة فى تحويله إلى مقهى أو صالة ديسكو صهيونية. الحديث عن هذه الأسطورة الجديدة يستدعى على الفور كتلة الأساطير الأخرى التى قامت عليها دولة إسرائيل فى المنطقة، كأسطورة أرض الميعاد، والشعب المختار، والأهم من ذلك أسطورة «الهولوكوست» وما يرتبط بها من مبالغات، ومحكمة نورمبرج، وغيرها من الأساطير التى برر بها الصهاينة لأنفسهم الاستيلاء على أرض شعب آخر وقتل وتشريد أهله، من خلال مذابح وعمليات تطهير عرقى، لا تقل فى بشاعتها عن كارت «الهولوكوست» النازى الذى يرفعه الصهاينة لليوم. المفكر الفرنسى الكبير «روجيه جارودى» قام قبل أكثر من 20 عاما بجمع هذه الأساطير الصهيونية وتفنيدها والرد عليها من خلال وضعها فى سياقها المنطقى والتاريخى، وذلك فى كتابه المهم «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، والذى صدرت منه عشرات الطبعات بمختلف اللغات، من بينها الطبعة العربية التى صدرت عن دار الشروق، بمقدمة للكاتب الكبير «محمد حسنين هيكل». لكن الثمن الذى دفعه جارودى لم يكن سهلا، فالحرب التى شنها اللوبى الصهيونى ضده بدأت حتى قبل أن يقوم بنشر كتابه، حيث فوجئ جارودى الذى تتسابق كبريات دور النشر على طباعة وتوزيع كتبه، بجميع هذه الدور يرفض نشر الكتاب، ما اضطره إلى نشره على نفقته الخاصة، قبل أن يتعرض الكتاب لمحاولات سحبه من منافذ التوزيع. وما كاد الكتاب يصدر حتى فوجئ بقائمة طويلة من الاتهامات، التى تتصدرها طبعا معاداة السامية، وكانت مرافعة جارودى أمام المحكمة الفرنسية حينها بمثابة عمل فكرى آخر ساهم فى فضح حقيقة الشعارات والمنطلقات الصهيونية، كما أحرج النظام الفرنسى وقتها، كاشفا عن تنامى نفوذ اللوبى الصهيونى فى موطن حقوق الإنسان، وكان قبل ذلك ضعيفا فى باريس. وبالمثل كانت مقدمة الأستاذ هيكل للكتاب دعما آخر، وقيمة فكرية مضافة انفرد بها القراء العرب. فى مقدمته لفت الأستاذ إلى تميز كتاب جارودى عن غيره من الكتب التى تناولت المسألة الصهيونية فى إحاطته الشاملة بكل الأساطير الإسرائيلية، بينما كان سابقوه يركزون فى الغالب على أسطورة واحدة، هى فى الغالب أسطورة «الهولوكوست» أو المحرقة النازية التى صنعها النازى الألمانى هتلر لليهود عقب الحرب العالمية الثانية، والتى بالغ اليهود فى أرقام ضحاياها فجعلوهم 6 ملايين، بينما أكدت العديد من المقاربات التاريخية والإحصائية فيما بعد أنها لم تتجاوز الملونين بكثير. والأسطورة كما يعرفها الأستاذ هيكل: تستخرج مادتها الخام من تلافيف الماضى البعيد أو القريب، ويعاد تركيبها وتأليفها لتؤدى وظيفة التعبئة، التى تعد مقدمة للمواجهة، والتى تكون بدورها استعدادا للصراع الذى هو وصفة جاهزة للحرب، مما يفسر أداء الكيان الصهيونى منذ نشأته وحتى الآن. وبالعودة إلى كتاب جارودى فقد قام بدور مركزى فى فضح الشعارات والأيديولوجيات المقدسة للنظام الصهيونى من خلال إبراز الأساطير السبع التى توجه المشروع السياسى العنصرى والاستعمارى الصهيونى المعاصر. وقسمها جارودى إلى أساطير دينية هى: أسطورة الوعد (أرض الميعاد أم أرض مغتصبة)، وأسطورة الشعب المختار، وأسطورة يشوع (التطهير العرقى)، بالإضافة إلى أربع أساطير معاصرة هى: أسطورة معاداة الصهيونية للفاشية، وأسطورة عدالة محكمة نورمبرج، وأسطورة الهولوكوست، ثم أسطورة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وبعد دراسته التشريحية لهذه الأساطير وإثبات وهميتها، انتقل جارودى إلى عرض الاستخدام السياسى لها من خلال ثلاث دوائر، هى دائرة الولاياتالمتحدةالأمريكية ودائرة فرنسا، ودائرة التمويل الخارجى، ونشاط اللوبى الصهيونى فى هذه الدوائر الثلاث. فى معرض حديثه عن الهولوكوست انتقد جارودى ما وصف بعدالة محكمة «محكمة نورمبرج» وهى المحكمة التى أسستها كل من أمريكا وانجلترا وفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية، بهدف ملاحقة مجرمى الحرب، لكنها لم تكن تعترف إلا بتقارير الحلفاء المنتصرين فى الحرب دون مراجعة، وقد أثبت جارودى زيف وبطلان العديد منها، كما طالب بنقاشات علمية حول أدوات الجريمة النازية إن وجدت كغرف الغاز مثلا، والتى شكك فى وجودها من خلال دراسته لمذكرات قادة الحرب ووثائقهم، وانتقد جارودى إصرار الصهاينة على تثبيت الرقم 6 ملايين ضحية الذى يصفه «بالذهبى» وطريقة إحصائه، متوقفا عند الرقم 2 مليون. كما انتقد المفكر المسلم مستوى التعليم فى إسرائيل، كتدريس كتاب «يوشع» المحشو بأحقاد اليهود على العرب، بما فيه من إذكاء لروح العنصرية، وتشجيع الإبادة الجماعية للعرب وإخراجهم من أرضهم. أخيرا فإن هذا الكتاب بشهادة العديد من المفكرين العالميين وعلى رأسهم الأستاذ «هيكل» يعد الأهم والأشمل، الذى يهتم بحصر وتفنيد الادعاءات الصهيونية المركزية، التى أفلح الصهاينة فى بثها وجعلها فى مصاف الحقائق، ودفع ثمنها العرب كثيرا، وهو يفضح الخطوات البنيوية التى يتبعها الكيان الصهيونى فى تحويل أطماعه إلى أساطير ثم تبدأ التنفيذ.