محمد وردي ارتبط تاريخ الحركة السياسية المعاصر في السودان بأغنيات الفنان «محمد وردي» أكثر من أي فنان آخر، وأصبحت قصيدة محمد الفيتوري الشهرية «أصبح الصبح، فلا السجن ولا السجان باق» التي شدا بها وردي عشية ثورة أكتوبر عام 1964، التي اسقط بها الشعب السوداني حكم الجنرال «ابراهيم عبود» الذي كان يوصف بأنه اعتي الديكتاتوريات في إفريقيا بالعصيان المدني العام، هي ايقونة الثورات والانتفاضات والاضرابات والاحتجاجات في السودان، يرددها السودانيون تحديا لكل ألوان الصعاب، وبعثا للأمل، الذي تحفر المسارات نحوه، أغاني وأناشيد «محمد وردي». وفي السودان اختلفت الأحزاب السودانية حول كل شيء ، لكنها اجتمعت علي محبة صوت «محمد وردي» وعلي تقدير مكانته كفنان كبير، ولم يكن غريبا في هذا السياق أن تتبادل مواقع التواصل الاجتماعي صورا لقادة أحزاب شمالية وأخري جنوبية وهي ترقص وتتمايل علي نغمات اغنياته في الاحتفال بمولد دولة جنوب السودان في يناير من العام الماضي. ولأن العادة، ألا تحمل لنا هذه الأيام سوي أسوأ أخبارها، فقد شكل رحيل الفنان «محمد وردي» (80 عاما) الأسبوع الماضي، أسوأ تلك الأخبار، ليس فقط لأنه قامة فنية رفيعة المستوي تخبو وتغيب عن المشهد الغنائي العربي والإفريقي، بل ايضا لأن «الوقت المناسب» لم يأت أبدا لتكريمه بما يليق بالأثر العميق الذي أحدثه في تشكيل الذوق الفني للجماهير السودانية والإفريقية والارتقاء به وإثرائه بأنماط موسيقية مختلفة ، واغنائه بالايقاعات الافريقية المتفردة، وهو ما منحه عن جدارة لقب «مغني إفريقيا الأول»، ذلك لأن الأفارقة في شرق وغرب إفريقيا يتأثرون بالغناء السوداني، برغم أنهم لا يعرفون اللغة العربية، لأن الموسيقي السودانية تعرف بالموسيقي الخماسية وهي زنجية الطابع. قبل أن يحترف «محمد وردي» الغناء عام 1958 عمل مدرسا بعد أن تخرج في المعهد العالي للمعلمين، وألتحق بنقابة المعلمين وتمرس بالعمل النقابي حين كانت الحركة الوطنية السودانية في أوج ازدهارها وهي الفترة التي انتمي فيها إلي حركة اليسار السوداني التي قادته فيما بعد للالتحاق بالحزب الشيوعي السوداني. واعتقل «وردي» خمس مرات في عهدي «نميري» و«عبود» وبعد انقلاب الإنقاذ في عام 1989 عاش وردي مغتربا بين لندنوالقاهرة وحصل علي حق اللجوء السياسي من بريطانيا، ورفض دعوة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، أن يعود إلي أرض الوطن منفردا، وظل منفيا حتي عاد مع أركان التجمع الوطني الديمقراطي المعارض إلي أرض الوطن قبل نحو ست سنوات. سألت «محمد وردي» حين التقيته قبل سنوات في القاهرة، عن أسوأ أنواع السجن التي تعرض لها فقال بألم وأسي إنها «الغربة عن الوطن» وحين سألته عن الأثر الذي تركه التزامه السياسي كمناضل شيوعي علي فنه، قال إنه استفاد كثيرا من الاقتراب من مشاكل الناس وقضاياهم وهي المشاكل التي عبر عنها الحزب الشيوعي السوداني بصفته أكثر الاحزاب دفاعا عن الفقراء ودعوة لإنصافهم. كانت موهبة «محمد وردي» هي التي قادته إلي الالتزام الحزبي والسياسي، لذلك قال لي إن كل فن يروج للقيم الجميلة والراقية ويعابث النشوات العليا لدي البشر هو فن ملتزم، فالاجتهاد في الفن التزام، والتجويد والاجتهاد التزام، والجمال التزام والذوق الحسن التزام، وكل من يحمل رسالة فنية أو سياسية تخضع للقواعد وابجديات الذوق الفنون هو فن ملتزم بصرف النظر عن الالتزام السياسي المباشر. إن رحيل «محمد وردي» هو خسارة فادحة للغناء الراقي وللسياسة في آن واحد.