خلال عام واحد من اندلاعها حققت ثورة 25 يناير 2011 إنجازات جسيمة: أولا، إسقاط المنظومة الرئاسية المتمثلة في قيادة النظام برئاسة مبارك وبدعم زمرته من المجرمين والفاسدين الذين تتم محاكمتهم الآن، ثانيا، إسقاط المنظومة الأمنية المتمثلة في قيادات وزارة الداخلية وأمن الدولة وما يرتبط بهما من مؤسسات أمنية ومخابراتية، ثالثا، الدفع بقيادات الثورة من الشباب إلي المعترك السياسي من خلال البرلمان من أجل تحقيق الشروط اللازمة والضرورية لبدء الصراع السياسي بين أطراف القوي السياسية، وفي مقدمتها التيار الأصولي الإسلامي المتمثل في حزب الأغلبية حزب الحرية والعدالة، بزعامة جماعة الإخوان، والذي استولي علي البرلمان عملا بمبدأ الديمقراطية الشمولية القائمة علي دكتاتورية الأغلبية التي تحتكر السلطة باعتبارها حقا مطلقا، رابعا، إيقاظ الوعي الثوري في المصريين بكل طبقاتهم والحفاظ علي ذلك وتنحيته من أجل استكمال مراحل الثورة، خامسا، إطلاق سراح الجدل الفكري والسياسي الذي كان قد أخمده النظام المخلوع كما يتمثل الآن في بزوغ تيارات فكرية وسياسية كانت مقهورة وفي مقدمتها التيار اليساري بوجه عام والتيار العلماني علي الخصوص. وتشير الإنجازات الثلاثة إلي تغيرات مادية ملموسة من شأنها أن تحدث تراكمات كمية تدفع بالثورة في مسارها نحو استكمال تحقيق المزيد من الإنجازات، ويأتي في مقدمة هذه الإنجازات اللازم تحقيقها من أجل استكمال مسار الثورة، تنحي المؤسسة العسكرية عن مجال السلطة السياسية والاكتفاء بأداء دورها المنوط بها في أي نظام ديمقراطي وهو الدور المهني الوطني المنحصر في حماية الوطن من أي خطر خارجي، وبذلك تكون الثورة قد تحققت تحققا كاملا غير منقوص لأن التغير حينئذ سيكون تغيرا جذريا يحقق نقلة كيفية في طبيعة وبنية الدولة المصرية التي تنشدها الثورة وهي الدولة غير العسكرية وغير الدينية التي ستكون الأساس المتين لبناء نظام ديمقراطي، وهو ما كانت تهدف إلي تحقيقه ثورة 1952 كما هو منصوص عليه في المبدأ السادس من مبادئ الثورة وهو «إقامة حياة ديمقراطية سلمية»، وبذلك تكون ثورة 25 يناير 2011 هي نهاية «الجمهورية الأولي» التي أسستها ثورة 23 يوليو 1952 برئاسة مجلس قيادة من العسكريين الذين قاموا بالثورة، وبداية «الجمهورية الثانية» بقيادة الشعب وطلائعه من الشباب الذين خططوا للثورة وقاموا بها من أجل تأسيس دولة تقوم علي مبادئ الحكم الديمقراطي الذي يتمثل في مؤسسات مدنية غير عسكرية تحكمها قوانين وتشريعات مدنية ويديرها أفراد وقيادات من خارج المنظومة العسكرية. وبذلك تكون مصر قد خرجت «خروجا آمنا» وشاملا من نسق «الجمهورية الأولي» بكل ما أفرزته من ممارسات وظواهر سياسية واجتماعية وفكرية إلي نسق جديد بممارسات وظواهر مغايرة تماما، ومن بين تلك الممارسات والظواهر التي أفرزتها «الجمهورية الأولي» التيار الأصولي الإسلامي بقيادة جماعة الإخوان حيث كان هذا التيار يقوم بدور محوري في منظومة الحكم السياسي العسكري سواء سلبا أو إيجابا، وتتميز «الجمهورية الثانية» لدولة ذات طابع علماني حداثي يواكب روح ثورة 25 يناير ويعكس وعي الثوار الشباب الذين قاموا بها، ويدعمها جيش مهني قوي قادر علي حماية حدود الوطن. أما الإنجازان الرابع والخامس فيتمثلان البعد المعنوي لإنجازات الثورة والذي يتمحور في إذكاء الوعي الثوري الشعبي من جهة، وإطلاق سراح التيارات اليسارية والعلمانية من جهة أخري، وذلك من أجل تحقيق الجدل الفكري والسياسي اللازم لدفع مسار الثورة نحو الاكتمال، وكل من الإنجازين ضروري لدعم الإنجازات المادية. والسؤال المحوري الآن هو: كيف تتحول هذه التراكمات الكمية، المتمثلة في الإنجازات الخمسة، إلي نقلة كيفية تتحقق فيها «الجمهورية الثانية»، أي نفي ما نفته الثورة بمعني مجاوزة هدم «الجمهورية الأولي» إلي بناء «الجمهورية الثانية»؟ الجواب عن هذا السؤال مطروح فيما يحدث الآن من ممارسات تصادمية وعنف دموي بين قوي الثورة وقوي نظام الدولة التي تلفظ أنفاسها الأخيرة في محاولة يائسة للحفاظ علي وجودها ضد الفناء الذي ينتظرها علي أيدي الثوار، وهذا شيء طبيعي أن يقاوم أي نظام نقيض بل عدوه وأن يستخدم كل ما أوتي من قوة وسلطان من أجل البقاء ودليلنا علي ذلك ما شهده المجتمع المصري خلال العام الماضي ومازال من مواجهات ومؤامرات وصدامات دموية تجلت أخيرا في مذبحة استاد بورسعيد وما تلاها من مواجهات بين الشباب وحرس الداخلية تحولت إلي ما يشبه حرب الشوارع استخدمت فيها نفس الآليات التي دأب النظام البائد علي استخدامها وبنفس الكيفية من بلطجية بأدواتهم وأسلوبهم المعتاد مع استخدام نفس آليات القمع البوليسي من إطلاق الغازات والخرطوش والمطاطي.. إلخ، علي الرغم من أن الخبرات السابقة قد أثبتت مرارا وتكرارا طوال العام الماضي عدم جدوي تلك الآليات في مواجهة صمود شباب الثورة، وكل هذه الممارسات ما هي إلا تعبير عن النفس الأخير لآخر قلعة من قلاع «الجمهورية الأولي». بيد أن ذلك لا يمكن أن يدوم طويلا حيث إنه من المستحيل الصمود في مواجهة إرادة الشعب الذي عبر عنها في عبارة موجزة دوت في أرجاء الوطن: «يسقط يسقط حكم العسكر» والغرض من تلك العبارة هو إقصاء المؤسسة العسكرية عن السلطة السياسية وليس إقصاء الجيش أو إسقاطه. والآن ثمة سؤال يطرح نفسه: إلي أي مدي ستتحول الإنجازات المعنوية التي حققتها الثورة والمتمثلة في إيقاظ الوعي الثوري الشعبي من جهة، وصحوة التيار اليساري والعلماني من جهة أخري، إلي عناصر فاعلة تدعم القوي الثورية في صدامها مع بقايا النظام السابق، لكي يتحقق إسقاطه بالكامل وصولا بالثورة إلي إرساء دعائم «الجمهورية الثانية»؟ الجواب يستلزم طرح سؤال آخر: ما هي التحديات التي تقف في سبيل تحقيق ذلك التلاحم المنشود بين جميع أطراف القوي الثورية؟ في تقديري أن التحديات تنحصر في التحالف الخفي بين المنظومة العسكرية الحاكمة والتيار الإخواني بشقيه الحزبي والجماعة، وهو ما يتمثل في المناورات البرلمانية التي يقودها حزب الأغلبية من أجل إجهاض الصمود الثوري في مواجهة بقايا النظام.. وتستخدم هذه المناورات البرلمانية آليات الديمقراطية مثل القانون واللائحة لصالح استمرار التحالف مع المنظومة العسكرية وذلك من خلال العمل علي التسويف والمماطلة في اتخاذ الإجراءات القانونية والتشريعية اللازمة لتحقيق إرادة الشعب عملا بمبدأ احتكار الأغلبية للسلطة البرلمانية باعتبارها حقا مطلقا لتلك الأغلبية وآلية من آليات «للديمقراطية الشمولية» التي تمارسها تلك الأغلبية تحت قبة البرلمان تمهيدا لنقلها إلي كل مجالات المجتمع. وهذا الموقف، في تقديري، يفسر مغزي إصرار المجلس العسكري وحزب الإخوان علي سرعة إجراء انتخابات مجلس الشعب بدعوي ضرورة إيجاد مؤسسة تشريعية منتخبة كخطوة أولي في مرحلة انتقال السلطة، فالأحداث قد كشفت عن الغرض الحقيقي وراء تسليم جزء من السلطة إلي الإخوان من خلال البرلمان وهو أن يشكل هذا البرلمان معوقات قانونية تضعف من قوة اندفاع الثورة نحو استكمال مسارها، وبذلك تتوحد الجهود البرلمانية مع الجهود الأمنية والعسكرية في محاولة أخيرة لإجهاض الثورة. فهل ينجحون؟