الأوضاع العشوائية لإلحاق الضرر بالثورة تنتعش في ظل «التلكؤات» المليونيات هي جسم الثورة، والذي أبدعه الشعب المصري العظيم ليسقط به النظام الفاسد، وليضغط به من أجل استكمال عمليات اسقاط هذا النظام، وتحويل مصر الي مسار الديمقراطية والتنمية. وأما العشوءة، فهي الاحداث للعشوائية بقصد. انها عملية تهدف الي اصابة المنظومة (أو الجسم) بالخلل، مما يسمح بزيادة كبيرة للمستوي العادي من العشوائية ، الأمر الذي يؤدي الي منع استكمال بناء (أو تطور) الجسم (أوالمنظومة)، و يرفع من فرص تمكين العوامل والقوي المضادة، ويقود في النهاية الي تفتت (وتحلل) الجسم. هذان المفهومان، المليونيات كجسم للثورة، والعشوءة كوسيلة (أو ميكانيزم) لتصغير هذا الجسم والقضاء عليه، يصفان المأزق الذي تواجهه الثورة المصرية الآن، والذي يتشارك في المسئولية بشأنه كل من قوي الثورة والمجلس العسكري. ذلك بينما يقاسي منه الانسان المصري العادي، والذي صنع الثورة، أي المليونيات، من تكتله الجسم العظيم. وفي المقابل، تستفيد القوي المضادة للثورة من هذا المأزق، حيث تنتعش، وتتضخم حركياتها. نماذج العشوءة و العشوائية عن نماذج العشوءة، و العشوائية، فهي تطل من حين الي آخر، ويكون من شأنها ملء الشارع السياسي بدوامات تكون حالة الثورة في غني عنها. آخر الأمثلة، علي العشوءة والعشوائية، تتمثل فيما جري من أحداث يوم 9 سبتمبر خارج ميدان التحرير. وتحديدا الهجوم علي وزارة الداخلية، واشتعال حريق في مصلحة الأدلة الجنائية، ثم اقتحام السفارة الاسرائيلية (وملابسات اقامة الجدار)، وماصاحب ذلك من هجوم علي مديرية أمن الجيزة، وشروع في الهجوم علي احدي السفارات العربية القريبة من المكان. ومن الأمثلة التي لا تنسي في هذا الصدد، الظروف التي أحاطت باستفتاء 19 مارس، والتي قد غاب عنها التوافق المناسب (والضروري) مع قوي الثورة. هذا، ولانستطيع أن نفصل عن حالات العشوءة والعشوائية تصريحات حكومية علي غرار (أو في اتجاه) عدم الحاجة الي المليونيات (الشروق 27 أغسطس)، ولا التراخي في احكام أمن الشارع. غير أن أوضاع العشوائية والعشوءة، بما تصيب به حالة الثورة من أضرار وانحرافات (وتنعش به عزم وحركيات القوي المضادة للثورة)، لم تكن لتحدث الا في وجود حيودات وتلكؤات. أشكال الحيود عن الثورة في تقديرنا يكمن الخطأ (أو الانحراف) الرئيسي في أنه بينما الثورة قد وُلدت كجسم، والذي هو "الجماعية" أو المليونية، وذلك انتظارا لتوليد الرأس (أي القيادة الجماعية) من الجسم، الا أن ولادة الرأس قد تأخرت، بل لم تحدث حتي الآن. وعليه، صار الجسم القوي (والمتمثل في المليونية)، بافتقاده الي الرأس، لايعرف أحسن مايمكن أن يفعله تجاه الخطوات التالية في مسار الثورة، فضلا عن انعدام التنسيق في حركياته وفي تفاعلاته مع السلطة التسييرية للبلاد، أي المجلس العسكري. ولأن الجسم لايزال من دون رأس، فان الزمن يمضي، بينما متطلبات المسار الثوري تتراكم دون تحقق، في حين يحدث تولد للسلبيات. ومن ثم، تترهل الثورة (وتختلط أمورها) تدريجيا، و........ في النهاية يمهد الطريق لأعدائها. المصيبة التي ألمّت بالثورة، أن جزءا كبيرا من كوادرها (من شباب الثورة، ومن نشطاء وقيادات في التيارات السياسية) قد تحولت اهتماماته وانشغالاته الي الأنشطة الدعائية والتحالفية من أجل الانتخابات البرلمانية والرئاسية، في طول البلاد وعرضها. وذلك - بالطبع - علي حساب أولويات استكمال بناء الثورة وحمايتها، والمضي في انجاز احتياجاتها وأهدافها. وبمعني أوضح، تتعرض حالة الثورة - برغم عدم اكتمال نضجها - الي عمليات عشوائية وعشوءة، تختلط فيها المعايير والمصالح الوطنية بغيرها، وينتج عنها ابتعاد جوهري عن الاطار المرجعي الابداعي لثورة 25 يناير، وعن لزوميات الثورة ومتطلباتها. عودة الي لزوميات الثورة هنا يجدر التوقف أمام كل من الاطار المرجعي لثورة 25 يناير، و اللزوميات (والمتطلبات) التي بدونها تتبخر هذه الثورة. يتمثل الاطار المرجعي لثورة 25 يناير في خصائص اللحظة التاريخية التي شهدت أعلي توحد للمصريين مع حالة الثورة. انها لحظة رفع الأحذية في مواجهة آخر خطاب للرئيس المخلوع. هذه اللحظة تمثل الجماعية الوطنية الكبري، والتي تتضاد مع (ولاتقبل) أي تمييز يقوم علي النوع (ذكر وأنثي)، أو الديانة، أو الخلفية السياسية أو العقائدية أو العرقية، أو مستوي المعيشة، ...الخ. ولقد كان النتاج الرئيسي والمباشر لهذه اللحظة التاريخية هو انجاز العبور الي نجاح الثورة، الأمر الذي تجسم عمليا في خلع الرئيس، وانتقال سلطة تسيير البلاد الي المجلس العسكري، وصدور الطلبات الأولية للثورة، وتأسس المليونيات كأداة رئيسية لها. من المطلوب اذن، في ظل حالة الثورة (والمفترض أنها لاتزال قائمة)، أن يظل هذا الاطار المرجعي هو الأساس للمسار الباقي من الثورة، أي لاستكمالها وحمايتها. أما عن "لزوميات الثورة"، فتتضمن ثلاثة واجبات أساسية. الواجب الأول يتمثل في جعل المرحلة الانتقالية مرحلة ثورية، تقوم بانجاز الطلبات الاجرائية الخاصة بالثورة، وبالتعامل والترتيب بخصوص الطلبات الوظيفية والاستراتيجية (الأمر الذي لم يحدث، ولايمكن حدوثه بغير حكومة ثورية من كبار الخبراء المقاومين للفساد في الزمن السابق). وأما الواجب الثاني فيختص بتحديد "سقف" للثورة. ذلك بمعني تحديد التغييرات التي بتحققها تدخل البلاد الي سلاسل التطور والتغيير دون الحاجة الي ثورة جديدة (حيث لا يمكن اعتبار الانتخابات أو الدستور سقفا لحالة الثورة). ثم يأتي الواجب الثالث، ويتمثل في التوصل الي توافق حول المسارات الخاصة بالوصول الي سقف الثورة. هذا التوافق لابد وأن يكون متناغما مع الخطوات الاجرائية الخاصة بالتحول الديمقراطي (الانتخابات والدستور ..الخ)، وبعودة المجلس العسكري الي مهامه الأصلية. انه توافق غائب لم يحدث بعد، والبرهان علي ذلك - في تقديرنا - يكمن في عدم وجود اجابة محددة، عند أي من قوي الثورة أو المجلس العسكري، تجاه السؤال التالي: "هل توجد رؤية (و/أو خطة) مشتركة، للحفاظ علي التناغم (أو التوافق) في أرض الواقع، بين لزوميات الثورة من ناحية، و مسار الانتخابات، ومابعدها، من ناحية أخري؟؟؟". وهكذا، مع عدم تحقق الحد الأدني المقبول من "لزوميات الثورة"، كيف يمكن الظن (من جانب أي طرف) بأن لاحاجة للمليونيات (أو بأن حالة الثورة واجبة الانتهاء)؟ خطر تبخر الثورة الحقيقة أن الوضع الحالي يهدد بتبخر حالة الثورة، الأمر الذي يتجسم فيما يلي من نواقص وملامح خلل: 1) عدم الارتقاء المنظومي لحالة الثورة منذ بزوغها، حيث لم تنشأ قيادة جماعية للمليونيات، كما ذُكر أعلاه . انه النقص الذي ساهم في (وسمح ب) تشوه المليونيات (بالعشوائية)، وتشويهها (بالعشوءة). 2) غياب هدف "تفريغ البلاد من الفساد". انه هدف مصيري، ولايمكن أن ينجز الا عن طريق كيان قومي مختص ينشأ تحت مظلة الثورة. ذلك بينما ما يجري حاليا من تعامل مع الفساد، لايتم - أساسا - الا باسلوب التجزئة المحدودة (أي ال "قطعة قطعة")، و فقط تحت ضغط المليونيات، والتي تتعرض للتشوه والعشوءة. هنا يجدر الانتباه الي أن مصر تفقد أحسن فرصة للقضاء علي الفساد، والتي تكون أعلي ما يمكن من كفاءة أثناء ممارسة الثورة (وذلك طبقا للخبرات والنظريات العلمية). 3) الافتقاد الي حكومة ثورة، تقدر علي احداث التحولات الضرورية في السياسات العامة، وعلي استتباب أمن الشارع. 4) عدم نزول الثورة الي وحدات العمل. وبالتالي حرمان وحدات العمل من ممارسة التطوير والتحسين في الانتاج والأداء، من خلال (أو من قلب) مقاومة الفساد. 5) اهمال الامساك بالتحول الثقافي التلقائي العظيم الذي حدث في أخلاقيات وتعاملات وطموحات المصريين وقت الثورة. انه التحول الذي جعل المليونيات تتزين بشيوع التسامح والبهجة والمحبة، وكان جديرا بالرصد والتحليل والاستخدام - المنهجي - كأساس في بناء مصر الثورة، التي تعلو فوق كل التمييزات والمصالح الخاصة. 6) وصول الشارع السياسي للثورة الي حالة "محلك سر"، وخضوعه تماما لمنهج "التجربة والخطأ"، الأمر الذي تتزايد مخاطره في ظل سياقات الجهل والفقر والفساد، والتي لم تقترب منها حالة الثورة اقترابا منظما، بعد. 7) تزايد في طواعية الشارع السياسي للقوي المضادة للثورة، و هي القوي القادرة علي سوء استغلال المال والجهل والفقر لمصالحها الافسادية. وهكذا،في ضوء ماوصلت اليه التحديات المباشرة التي تتعرض لها الثورة، وعلي وجه الخصوص تشوه وتشويه للمليونيات، والاخلال بالأولويات، فان الأمر يبدو (رغم قناعتنا بأنه ليس كذلك) كما لو أن سياسيي الثورة والتيارات السياسية قد عقدوا اتفاقا مع مبارك، أن "اسمح لنا بانشاء الأحزاب وبانتخابات بوجه ديمقراطي، في مقابل بقاء النظام كما هو" (؟!؟). ورغم أن الأمر ليس أبدا كذلك، فإن النتيجة العملية في أرض الواقع، تكاد تكون واحدة. انه اذن مأزق كارثي بالنسبة للثورة، بدلالة ماجرت الاشارة اليه أعلاه، من ابتعاد الثورة عن اطارها المرجعي، وعدم تحقق أي من لزومياتها، وتفاقم للنواقص ومعالم الخلل في مسارها. ادارة مأزق المسارالثوري ادارة التعامل مع هذا المأزق يمكن أن تنطلق من خلال الذهاب الي أقرب وأهم نقطة في المسار الثوري الافتراضي، الذي جري الحيود (أو الابتعاد) عنه. هذه النقطة تتمثل في تكوين رأس جماعية لقيادة الثورة. رأسا تكون مسئولة عن التنسيق بين قوي الثورة، والتشاور مع المجلس العسكري، والمتابعة والغربلة مع الحكومة. عمليا، ليس من المستحيل بناء الرأس الجماعية للثورة (هنا، يمكن الرجوع الي "ورشة عمل .. الرأس الغائبة في الثورة المصرية" - البديل الجديد - 27/7/2011). أما عن أهميتها الاستراتيجية، وهذا هو الأخطر، فبالإضافة الي ما سبق ذكره، من شأن هذه الرأس تحقيق جماعية النخبة ، والتي تأخرت كثيرا عن جماعية الشارع. ذلك اضافة الي الخروج من البنية الاستاتيكية الحالية للثورة، وبحيث يكون الجهد والزمن موجهين لصالح متطلبات المسار الثوري، وليس لتصعيد التناقض بين القوي الثورية، أو السياسية، وبعضها. وختاما، يجدر جذب الانتباه الي أن مصير مصربعد الثورة يمكن أن يأخذ احدي حالتين. في الحالة الأولي يرتفع عاليا المدار الذي يمكن أن تتبوأه مصر الي الديمقراطية والتنمية، حيث تصبح منافسا للدول المتقدمة (كما حدث بواسطة دول مثل الصين وسنغافورة والهند وماليزيا والبرازيل). يتحقق ذلك اذا ماجري تصحيح مسار الثورة الآن، حيث يؤدي هذا التصحيح رفع مستوي منصة انطلاق مصر الي المستقبل. وأما في الحالة الثانية، حالة الفشل في تصحيح مسار الثورة، فإن منصة انطلاق مصر تكون علي مستوي ما يجري حاليا من عشوءة واختلاط في الأولويات، وبالتالي يظل مدار تقدمها ملامسا للأرض. فهل تنجح قوي الثورة في أن ترفع منصة انطلاق مصر عاليا؟.