كان المشهد غريبا يدعو للحيرة ويثير العديد من علامات الاستفهام. طوال فترة تفجر أحداث الثورة المصرية واختفاء قوات الأمن والحراسة من أمام الكنائس بل من داخل أقسام الشرطة لم يقع حادث اعتداء واحد علي دور العبادة القبطية، مرت أيام الثورة المجيدة دون أعمال ارهابية تستهدف الكنائس علي الرغم من فتح أبواب السجون وإطلاق البلطجية بالشوارع لترويع المواطنين، واثارة حالة من الذعر والرعب لإرهاب المجتمع بكل طوائفه وفئاته لإسقاط الثورة واطفاء لهيب الاحتجاجات الشعبية التي عمت ارجاء البلاد. الوجه الآخر للمشهد المثير فتبلور في تعدد الاعتداءات علي الاقباط وعلي الكنائس ومحاصرة الكاتدرائية المرقسية بالعباسية في أعقاب نجاح ثورة يناير في اسقاط رأس النظام البائد، فيما وصفه البعض بانه الحصاد المر للثورة بالنسبة للأقباط. في حين أن الثورة باعتبارها حدثا فريدا ضد الظلم والطغيان والفساد بريئة من ممارسة العنف والاعتداءات ضد الأقباط. الثورة التي شارك فيها المصريون جميعا مسيحيين ومسلمين لا تعرف التمييز بين أبناء الوطن الواحد ولا تعترف بهدم وإحراق دور العبادة، انما الذين يجيدون هذه السلوكيات والأفعال المسيئة للوطن ولحقوق الإنسان هم أعداء الثورة والمتربصون بها. اصابع معروفة كانت وراء تدبير احداث العنف والتدمير ضد الاقباط في اطار خطة انكشفت تفاصيلها لإثارة الذعر والفزع في المجتمع لحماية اصحاب السلطة والصولجان من المحاسبة ودعم وجودهم علي رأس السلطة والابتعاد بقدر الإمكان عن تحقيق استحقاقات الثورة التي لو تحققت لحصدت بالفعل هذه الرؤوس. تسترت هذه الأصابع احيانا خلف بعض المتطرفين من ذوي النفوس الضعيفة لإثارة الفتنة الطائفية لتأجيج حالة الفزع والاضطراب. وفي أحيان أخري ظهرت هذه الاصابع بوضوح بدهس وقتل المسيحيين في أحداث ماسبيرو في أكتوبر الماضي. وتحريض المسلمين بشكل رسمي وعلني من خلال التليفزيون المصري للتصدي لشركائهم في الوطن أمام ماسبيرو بدعوي حماية قوات الأمن والجيش من هجمات القوات «القبطية»!! حقيقة الأمر فإن الاعتداءات المتوالية والمنظمة ضد الأقباط طوال الشهور الماضية لم تكن بسبب عنف طائفي يستهدف الآخر شريك الوطن والعيش المشترك بقدر ما كانت استغلالا سيئا لبعض التشوهات الطائفية في بنية المجتمع المصري من بقايا العهد البائد، والنفخ فيها بدلا من احتوائها لتتفجر احداث طائفية لتحقيق الهدف الأعم والأشمل لإثارة الاضطرابات والفزع خلال الفترة الانتقالية. لم يكن الأقباط مستهدفين بحد ذاتهم وانما كانوا وقودا مثاليا لخلق النزاعات والخلافات والازمات تماما مثلما حدث أمام مسرح البالون وشارع محمد محمود ومجلس الوزراء من اشتباكات وعنف واعتداءات علي المتظاهرين والمعتصمين من المصابين وأسر الشهداء، وما أسفرت عنه من سقوط عشرات الضحايا ومئات المصابين. انها نفس خطة اثارة الاضطرابات لتشويه وجه الثورة والثوار والإفلات من المحاسبة وتحقيق مقولة الرئيس السجين: «أنا أو الفوضي»!! المرارة للجميع خطة إثارة الاضطرابات والازمات تضمنت في جانب منها افتعال نقص الوقود (البنزين- السولار- البوتاجاز) لإشغال المواطنين بتدبير الاحتياجات الضرورية، وخلق حالة من القلق واليأس بين الجميع بعد الثورة، ليتحول شعار الثورة من : «عيش.. حرية.. كرامة إنسانية» إلي «عيش.. حرية.. بنزين» ولو علي سبيل السخرية التي تدفع لضحكات أشبه بالبكاء بالتخلي عن «الكرامة الإنسانية» من أجل توفير «البنزين»!! إذن حصاد الثورة لم يكن مرا علي الأقباط فقط انما تذوق المرارة جميع فئات وطوائف الشعب المصري ومنهم الأقباط المواطنون المصريون. لقد شارك الأقباط في الثورة منذ اليوم الأول. ومازال مشهد الأقباط وهم يحرسون اخوانهم المسلمين من جحافل قوات وبلطجية النظام أثناء ادائهم للصلاة في قلب ميدان التحرير خلال الثورة مازال هذا المشهد الرائع راسخا في أذهان المصريين ومؤثرا في مشاعرهم الوطنية. داخل الميدان تري المحجبة وغير المحجبة والمنتقبة، تآلف وانسجام بين كل طوائف الشعب المصري الذي عزف سيمفونية ابهرت العالم كله. كذلك احتفالات آلاف الأقباط والمسلمين برأس السنة الميلادية يحملون الشموع وعلم مصر يطلقون الترانيم والاغاني الوطنية في ميدان التحرير في صورة تعكس اصالة وحضارة المصريين. ما كان ينبغي الاشارة لمشاركة الاقباط في الثورة، فهم يشاركون ليس لأنهم اقباط وانما لأنهم مواطنون مصريون. لكن ذكر هذه «المشاركة» فقط لتوضيح انه لابد وأن ينال الاقباط جانبا من الاعتداءات لأنهم مشاركون في الثورة، فلابد أن ينالهم جانبا من حب المجلس العسكري الذي شمل وغطي جميع الثوار وائتلافات وحركات الشباب سواء بالمحاكمات العسكرية أو بإطلاق الاتهامات بالعمالة والتمويل من الخارج.. فالحصاد المر الذي شمل الجميع لم يكن حصاد الثورة وانما حصاد سلوكيات وتصرفات وإدارة المجلس العسكري للمرحلة الانتقالية. ائتلافات للمواجهة بقدر ما دفع الاقباط ثمن المشاركة في الثورة غاليا بسقوط الضحايا والشهداء عندما خرجوا للتظاهر والاحتجاج علي هدم وإحراق الكنائس، بقدر ما أدت هذه التضحيات لخلق كيانات وائتلافات تدافع عن حقوق الأقباط في مواجهة الهجمات البربرية التي تعرضوا لها ليظهر «اتحاد شباب ماسبيرو» 8 شهداء سقطوا في المقطم ومنشأة ناصر عندما خرج الأقباط للاحتجاج علي هدم كنيسة صول بأطفيح. محافظة الجيزة، هذه الكنيسة التي تهدمت علي مدار 24 ساعة كاملة ودبابات الجيش تقف علي مشارف القرية دون أن يتدخل أحد. ثم قامت القوات المسلحة بإعادة بنائها.. «هذه هي أصول الصنعة».. أو ما يمكن تسميته «الفوضي تحت السيطرة». كذلك إحراق كنيسة السيدة العذراء بامبابة في أعقاب عمليات تحريض بدعوي اختطاف سيدة قبطية اسلمت وترك الأمور تتصاعد في ظل حالة الغياب الأمني وما اسفر عنه من قتل اثنين من الأقباط. ثم حادث هدم كنيسة المريناب بأسوان بعد خلافات علي بناء قبة للكنيسة وتصريحات محافظ أسوان حول غيرة شباب القرية من المسلمين والتي اشعلت الموقف. اصابع معروفة لا يمكن ضبطها، في اسوأ الاستنتاجات تساهم في تدبير الأحداث والاعتداءات، وفي أحسن الأحوال تغض الطرف عن احتواء الموقف وتترك الاحداث تتصاعد وتشتعل. عندما خرجت تظاهرات الأقباط في 9 أكتوبر الماضي للاحتجاج افصحت «الاصابع المعروفة» عن هويتها بوضوح بدهس وقتل حوالي 24 شهيدا خرجوا للتظاهر السلمي وللتعبير عن رفض الاعتداءات علي الكنائس. سقوط الهيمنة كسر الأقباط حاجز الخوف وحطموا قيود العزلة، وخرجوا للشارع للاحتجاج ضد ظلم واستبداد النظام البائد، وما تعرضوا له بعد الثورة من اعتداءات وهدم وإحراق للكنائس. في اجواء الثورة ينصهر الجميع في بوتقة واحدة، يندفع الكل نحو تحقيق الأهداف الوطنية. فالظلم يقع علي الجميع مسلمين وأقباطا، والاستبداد لا يفرق بين مسيحي ومسلم والطغيان لا يعترف بحقوق أحد. لذلك جاء خروج الأقباط ومشاركتهم في الثورة خلافا للتوجهات الرسمية للكنيسة القبطية التي غالبا ما تلتزم بعدم ازعاج نظام الحكم القائم بل في أحيان كثيرة تلجأ للدعم والتأييد والمبايعة للقائمين علي الحكم. فالنظام الرسمي الكنسي يتشابه مع النظام الرسمي للحكم في رغبة واتجاه كل منهما للهيمنة والسيطرة علي جموع الجماهير المنتمين للدولة بحكم المواطنة أو المنتمين للكنيسة بحكم الديانة. عندما تتزايد ضغوط الهيمنة وتتصاعد الرغبة في السيطرة سواء من نظام الحكم أو النظام الكنسي يكون الخروج للشارع وكسر الحواجز والقيود والاحتجاج في الفضاء الواسع ضد الحكم والكنيسة معا. لذلك هتف شباب الأقباط بسقوط حكم العسكر في قلب الكاتدرائية المرقسية عندما وجه البابا شنودة الشكر لوفد المجلس العسكري الذي حضر للتهنئة بعيد الميلاد. الهتافات وإن كانت ضد المجلس العسكري إلا أنها أيضا تعترض علي توجيه البابا للشكر للقيادات المجلس العسكري وعلي رأسهم الفريق سامي عنان رئيس الاركان. ايضا شهدت الكاتدرائية المرقسية في أعقاب الثورة تظاهرات واحتجاجات لآلاف الأقباط ضد المجلس الاكليركي المختص بقضايا الاحوال الشخصية للأقباط اعتراضا علي العنت في منح تصاريح الزواج الثاني وتعذيب وبهدلة الآلاف دون حل مشاكل الزواج والطلاق. لقد سقطت هيمنة الكنيسة علي الأقباط بحكم واقع الثورة وما ترتب عليها من الاطاحة برأس السلطة. مثلما سقطت هيمنة نظام الحكم علي جموع الشعب المصري. ينبغي أن يتعلم الجميع درس تورط المؤسسات الدينية في دعم ومبايعة وتأييد انظمة الحكم وما يترتب علي ذلك من اخطار واضرار تصيب المنتمين للطائفة والقائمين علي إدارة شئونها. فقد تعرضت الكنيسة القبطية لإجراء انتقامي من المجلس العسكري في اعقاب نجاح الثورة في الاطاحة بنظام الحكم والقضاء علي مشروع توريث الحكم لجمال مبارك ، عندما اقدمت المدرعات والجرافات علي هدم سور دير الانبا بيشوي مقر اقامة البابا شنودة بوادي النطرون. قد يكون الدير قد توسع في ضم اراض (صحراوية) دون تخصيص من الجهات المختصة، وقد يكون الدير لم يحصل علي ترخيص ببناء السور. كل ذلك لا يبرر ابدا الهجوم الانتقامي وهدم السور دون سابق انذار أو تفاهم مع المختصين بالدير لإزالة المخالفة. أنه رد قاس علي تورط الكنيسة في دعم وتأييد مشروع التوريث الذي تبين رفض قيادات القوات المسلحة له بل اتفاقها وحمايتها للثورة فقط من أجل احباط مشروع التوريث.