في سنة أولي من علم المنطق، يكون الدرس الأول مكونا من عبارة واحدة تقول «ليس من المنطقي أن تستخدم المنطق لفهم وتحليل قضايا غير منطقية»، ولأننا نعيش عصر اللامنطق، ولأن البعض انقلب ولم يزل ينقلب بطريقة غير منطقية سعياوراء وهم غير منطقي يمكنه أن يأتي له بكسب لا هو منطقي ولا هو باق، فإننا سنضطر مرغمين إلي محاولة استخدام بعض من المنطق. نقول ذلك تعقيبا علي مقال الدكتور بالأهرام 27/12/2011 بعنوان لماذا يظلم التيار نفسه؟ ولنا عليه عدة ملاحظات. أولا نستشعر أن الدكتور وحيد حزين مما أسماه «واقع الاستغلال الذي يخنق ملايين من العاملين، والاحتكار الذي لم ينته بإرسال أبرز أقطابه إلي مزرعة طرة والفقر الذي يزداد انتشارا، هذا هو نص الدكتور وحيد الحزين جدا علي حال الغلابة والفقراءوالرافض للاستغلال والاحتكار، ولنا عدة ملاحظات. إذا كان الدكتور وحيد حزينا إلي هذا الحد فلماذا لا يدافع عن الفقراء؟ ولماذا يكتفي بما هو فيه من محاولات تسلق هضاب منزلقة؟ وهل قيم العدل والمساواة ورفض الاحتكار مقصورة فقط علي اليساريين؟ ثم من قال له إن اليسار نسي الدفاع الطبقي الحازم عن الكادحين المصريين؟ وهل نمي إلي علم الدكتور البرنامج الانتخابي لحزب التجمع في الانتخابات الراهنة والذي يحمل عناوين أربعة «الدين لله والوطن للجميع.. الحرية للشعب.. الخبز للفقراء.. العمل للمتعطلين» وهل قرأ فيه «إن تدخل الدولة ضرورة من أجل تحقيق العدالة الاجتماعية وتحسين أحوال الطبقات الشعبية وضبط الأسواق ومنع الاحتكار»، وأيضا «رفع الحد الأدني للأجر إلي 1200 جنيه وربط الأجور بالأسعار بحيث ترتفع الأجور بطريقة تلقائية مع أي ارتفاع للأسعار وبنفس المعدل»، وأيضا «ما يقرب من نصف المصريين يعيشون تحت خط الفقر مما يتطلب وضع حد لسياسات إطلاق العنان لرأسمالية محلية وأجنبية متوحشة وطفيلية» ويمضي البرنامج الذي وزع منه مائة ألف نسخة ليناقش التعليم والصحة والسكن والرعاية الاجتماعية برؤية طبقية واعية وملتزمة بمصالح الفقراء ومصالح الوطن. ولكن «عين السخط تخفي المحاسن» والحقيقة أن هذه المشكلات ليست جديدة بل هي ثمار سياسات فاسدة وخاطئة ومعادية لمصالح الشعب كان الدكتور وحيد يعيش في رحابها هادئا ومنعما ملتحفا أو بالدقة متخفيا تحت رداء من ليبرالية أثبتت الأيام أنها كانت مجرد مهرب من خوض القضايا الطبقية التي توجع، ويوجع الحديث عنها حكام الأمس، أما نحن فقد كنا علي عهدنا الذي مازلنا عليه وهو الدفاع عن مصالح الكادحين وعن مستقبل الوطن في زمن كان فيه د. وحيد وأمثاله يتأففون علنا من فرط تطرفنا الطبقي. وثانيا: وهذا هو جوهر مقال د. وحيد وهدفه الأساسي فهو ينعي علي اليسار التحاقه بمعركة فرعية جعلها البعض مصيرية هي هوية الدولة، وأن اليسار التحق بهذه المعركة تحت شعار الدفاع عن «الدولة المدنية» فبدا أمام معظم المصريين وكأنه يريد إبقاء «دولة مبارك». ونتوقف أمام كلمات لم يتجاسر صاحبها أيام حكم مبارك علي مجرد التأوه بلفظ أو حرف يعارض أو يتبدي وكأنه يعارض. ومع ذلك فالسؤال الأهم الذي نطرحه علي كل مصري هل «هوية الدولة المصرية» مسألة فرعية؟ ولست أدري كيف يتجاسر مصري علي القول بذلك؟ إن هوية الوطن يا دكتور هي معيار انتماء المواطن إلي معايير ومواقف وتحديات تحدد ماضيه وحاضره ومستقبله، وهي التي تحدد رؤيته لتحديات العصر وموقفه من الأعداء والأصدقاء، وهي التي يتعلمها الأبناء ليقوموا بتوريثها جيلا بعد جيل، والمساس بهذه الهوية هو ضرب من التخلي عن الوطن، فهل هذه مسألة فرعية؟ أما موضوع «الدولة المدنية» الذي يفزع الدكتور ويعتبره مصارعة لشبح دولة دينية يقال إنه يحوم في سماء مصر فإنني أستشعر إزاء حديث الدكتور دهشة بالغة، فهو نفسه وبنفسه تحدث باسم ما أسمي بالتحالف الديمقراطي أي جماعة الإخوان ومن قبلوا أن يستظلوا بظلها عن «الدولة المدنية» وتقلب بحديثه عنها متقلبا مع رغبة أصحاب الدكان، فعندما قالوا «دولة مدنية ديمقراطية» قال ما قالوه، وعندما قالوا «دولة مدنية ذات مرجعية إسلامية» قال أيضا ما قالوه. وعندما استشعر أصحاب الدكان القوة والكثرة في البرلمان القادم لم يعودوا مهتمين بهذا القول، سعيا وراء إعداد دستور إخواني - سلفي وهو ما يسميه سيادة «شبح دولة دينية يقال إنه يحوم في سماء مصر» صمت واعتبر الأمر مسألة وهمية. والدولة المدنية يا سيدي، ليست شعارا جديدا ولكنها قائمة منذ نشأة الدولة المصرية الحديثة، والمعركة حولها قائمة من ذلك الحين وكانت معارك الليبراليين المصريين العظام من رفاعة الطهطاوي إلي محمد عبده إلي لطفي السيد إلي منصور فهمي إلي طه حسين إلي أحمد أمين، وإسماعيل مظهر وعلي عبدالرازق ومصطفي عبدالرازق وعشرات غيرهم من الليبراليين المصريين العظام الذي قدموا فهما ديمقراطيا وليبراليا واجتماعيا لصيغة الدولة المصرية، والذين دافعوا عن حرية الوطن والمواطن ورفضوا كل أشكال الديكتاتورية والتسلط وامتهان حقوق الإنسان، والذين دعوا إلي «مواطنة» مصرية حقيقية تحمي حقوق المصريين علي قدم المساواة النساء كالرجال والأقباط كالمسلمين والفقراء كالأغنياء دون أي تمييز. المواطنة التي تجاسر نواب جماعة الإخوان ولست أدري كيف فعلوها عندما صوتوا في مجلس الشعب ضد مبدأ المواطنة وفي ذلك الحين أبدي الدكتور تأففه كليبرالي أما اليوم فإنه يعتبر أن هذه القضية مسألة فرعية ومفتعلة، فما هو الجديد يا دكتور؟ علي أي حال نحن ما تغيرنا ولن نتغير إلا لنطور أفكارنا ومواقفنا لنظل كما كنا دوما في مسار الشعب ومسار كادحيه وفقرائه وحماية مستقبله. نحن ما ظلمنا أنفسنا ولا أنت يا دكتور ظلمت نفسك فأنت سرت خلفها سعيا نحو ما أرادت ونحو ما طمحت إليه، ولكل طموحه وسعيه نحو هواه. وقديما قال العرب فقاوم هواك فإن الهوي يقود النفوس إلي ما يعاب لكنك اخترت ولكل ما اختار.