أعلنوا وفاة اليسار.. اليسار مهدد بالاندثار إذا فاز الإسلاميون بأغلبية البرلمان. هل بقي شيء من اليسار؟.. هذه مجرد أمثلة لعناوين مقالات وتقارير نشرت في صحف ومجلات عدة في الأسابيع القليلة الأخيرة. وكلها تطفح بتشاؤم شديد بشأن مستقبل اليسار الذي بدا وكأنه اختفي في المشهد السياسي الراهن, خصوصا منذ أن بدأ الإعداد للانتخابات البرلمانية ثم خلال حملاتها وصولا إلي نتائج مرحلتيها الأولي والثانية. وهذه, وغيرها, عناوين محزنة بالنسبة إلي كل من يعرف قيمة اليسار في أي مجتمع, وأهمية دوره وضرورة حضور رسالته الاجتماعية التي لا غني عنها, وخصوصا في البلاد التي تعاني تفاوتا بل تناقضا طبقيا صارخا, وينتشر الفقر في ربوعها ويأكل البؤس من حاضرها ومستقبلها, كما هي الحال في مصر الآن. وإذا كانت هذه العناوين المؤلمة وغيرها تعبر عن الواقع, الذي تظهره نتائج الانتخابات ومؤشراتها الدالة علي أن تمثيل اليسار سيكون ضعيفا, فقد أسهبت كلها في وصف هذا الواقع وحاول بعض من استخدموها البحث عن مبررات لتراجع اليسار, بينما لمس بعضهم الآخر أسبابا لها أثرها بدرجة أو بأخري مثل الأزمة الحزبية والخلافات البينية, والعجز عن التوافق علي برنامج حد أدني, والابتعاد عن الشارع وضعف الصلة بالقطاعات العمالية وغيرها. ولكنها كلها أغفلت العامل الرئيسي وراء اختفاء اليسار في الأسابيع الأخيرة, وليس فقط تراجعه المتواصل منذ أعوام, وصعوبة العثور عليه في المشهد السياسي الراهن عموما, وفي المشهد الانتخابي بصفة خاصة. وبالرغم من أن تقريرا صحفيا عن ندوة شارك فيها عدد من أقطاب اليسار تطرق إلي العلاقة, بين هبوط هذا التيار بأطيافه المختلفة, وصعود الإسلاميين باتجاهاتهم المتعددة, إلا أنه لم يلمس المغزي الأكثر أهمية لهذه العلاقة. ولذلك ظل بعيدا عن الإمساك بجوهر المشكلة, ولم يتطرق إلي مسئولية فصائل اليسار التي تخلت بدرجات مختلفة, ولكنها متقاربة عن رسالتها الكبري في الدفاع عن العدالة الاجتماعية ومستحقيها, واختارت أن تخوض معركة صنعها فريق من الليبراليين حول هوية مصر. فقد سار اليسار إلا قليلا منه وراء هؤلاء الليبراليين الجدد في معظمهم تاركا قضيته الأولي ورسالته العظيمة وراء ظهره. فقد التحق اليسار في معظمه بمعركة فرعية جعلها البعض مصيرية حول هوية الدولة المصرية. وجاء ذلك علي حساب دوره في مواجهة واقع الاستغلال الذي يخنق ملايين من العاملين, والاحتكار الذي لم ينته بإرسال بعض أبرز أقطابه إلي مزرعة طرة, والفقر الذي يزداد انتشارا وحدة إلي مصارعة شبح دولة دينية يقال إنه يحوم في سماء مصر. وينطوي التحاق اليسار بهذه المعركة علي أخطاء عدة نكتفي هنا بثلاثة منها. أولها اتخاذ موقف تابع لغيره دون أن تكون هناك ضرورة تاريخية لذلك, ولا ظروف تفرض تأسيس جبهة وطنية ديمقراطية, فاليسار لا يتحالف مع خصومه الطبقيين إلا في سياق معركة حقيقية تفرض عليه ذلك, ويخوضها من موقع التكافؤ والندية, أو علي الأقل يسعي إلي مثل هذا الموقع. وثانيها الالتحاق بالأطراف الأكثر محافظة من الناحية الاجتماعية بين الليبراليين لمجرد كونهم أوفر تحررا من الناحية الثقافية, وهذا هو طابع معارك الهوية بالفعل, ولكن حين تكون حقيقية وليست مصنوعة, غير أنه لكون هذه المعركة مفتعلة في القسم الأكبر منها, فقد نأت القوي الليبرالية الاجتماعية (مثل الوفد وغد الثورة) بنفسها عنها, وهي الأقرب إلي اليسار. وثمة خطأ ثالث بالغ الأهمية وهو أن اليسار الذي التحق بهذه المعركة خاضها تحت شعار من صنعوها, وهو المحافظة علي الدولة المدنية, فبدا أمام معظم المصريين كما لو أنه يريد إبقاء دولة مبارك التي لم تكن في الحقيقة دولة ولا كانت مدنية. فليس ممكنا أن تقبل أغلبية المصريين هذا الطرح ليس لأنها تؤيد تيارا إسلاميا أو آخر, ولكن لأنها لم تجد علي مدي أربعة عقود دولة تنتمي إليها بل سلطة غاشمة ابتلعت هذه الدولة وعصفت بكل من اعترض علي استبدادها وتسلطها وظلمها وفسادها. لم يعرف المصريون دولة يعيشون في كنفها مواطنين متساويين في الحقوق والواجبات, بل عصابة تسلطت عليهم ونهبتهم, واعتبرتهم من سقط المتاع, وتعاملت مع وطنهم كما لو أنه أرض بلا شعب, ولم ير المصريون علي مدي هذه العقود دولة مدنية يستجيبون لمن يدعونهم إلي المحافظة عليها, بل جهاز أمن متجبر انتهك كرامتهم وقمعهم وحرمهم ليس فقط من حقوقهم المدنية الأساسية, بل فرض قيودا علي الحرية الدينية للمسيحيين بينهم. ولذلك بدا المطالبون بالمحافظة علي الدولة المدنية, في نظر كثير من المصريين البسطاء لكن الواعين, إما راغبون في ديكتاتورية جديدة تعيد إنتاج المعاناة الطويلة, أو مقيمون في أبراج عاجية لا يدركون ما الذي حل بأهلهم الفقراء منهم والمستورون علي حد سواء. ومع ذلك فقد يكون من حسن الطالع أن هذا الجمهور لم يتخذ موقفا ضد اليسار. فلا يعرف معظم المصريين أن اليسار التحق بمعركة الدولة المدنية لأنه قبل أن يخوض هذه المعركة تحت لافتة ليبرالية. فباستثناء الكتابات التي حاولت معالجة أزمة اليسار, لم يرد له ذكر في الإعلام الذي تعامل مع تلك المعركة باعتبارها إسلامية ليبرالية, بل تحدث بعض قادة هذا التيار كما لو أنهم ليبراليون وليسوا يساريين. وهكذا ظلم اليسار المصري العريق نفسه وانخرط في معركة ظنها مصيرية بينما هي في الواقع فرعية علي الأكثر, وبدد فرصة تاريخية للالتصاق بجمهوره في أول انتخابات حرة, فليته يعود إلي نفسه وجمهوره الذي ينتظره, ورسالته وقضيته حين ينقشع الغبار الذي أثارته معركة الهوية. المزيد من مقالات د. وحيد عبدالمجيد