من بين الغبار المتراكم للفوضي المصاحبة لعدد من التغيرات العربية الأخيرة عوماً ، والاضطرابات الأمنية الضاربة أطنابها في مصر العربية خصوصاً ، يبدو من الأهمية بمكان، أن نقترح نماذج يمكن في ضوئها تفسير ما جري ويجري ، وربما ما سيجري أيضا. تلك مهمة بحثية معقدة ، فنحاول مقاربتها بصفة أولية في هذا المقال ، من خلال سباحة فكرية ، تحاول أن تستقريء الأنماط أو النماذج العامة التي يمكن أن تندرج في إطارها حزم التغيرات العربية الراهنة . ومع التأكيد علي اختلاف الرؤي والآراء ، وأن ما نطرحه مجرد رؤية أولية ورأي ، فإنه يمكن لنا أن نحدد نماذج التغيرات العربية الجارية في الأنماط الأربعة الآتية : أولا : نموذج الانتفاضة الثورية التامة (حالة تونس ومصر). و قد نجح هذا النموذج بحالتيه، في تحقيق هدفه المباشر أو مرحلته الأولي المفترضة ، وهي إسقاط رؤوس النظام القديم وأهم ركائزه العنفية ، حيث تم في مصر تحديداً - إسقاط رأس النظام ، وحزبه الحاكم ، والمؤسسة الأمنية ، في ضربة واحدة ساحقة ماحقة ، تخلّلها عنف كثير من الجانبين : جانب النظام بالمبادرة أو الفعل العنفي ، وجانب الجمهور والحشد برد الفعل العنفي المضاد والموجه بصفة أساسية ضد رموز المؤسسة الأمنية ممثلة في السجون وأقسام الشرطة ، ومقار مباحث أمن الدولة ، ومباني وزارة الداخلية علي المستويين المركزي ، (مبني الوزارة في لاظوغلي بالقاهرة) واللامركزي : (إدارات الأمن في المحافظات) . وأهم ما يميز (النموذج المصري - التونسي) هو تحقيق أعلي درجة ممكنة من الحشد الشبابي في الميادين والساحات العامة، في المدن الكبري كافة ، والإصرار علي استمرار التحشد ممثلاً فيما يسمي بالتظاهرات المليونية ، حتي تحقيق هدف " إسقاط النظام " أو "إسقاط الرئيس " . ولم يكن الحشد شبابياً فقط ، وإن بدأ كذلك ، واستمرت نواته المركزية المحركة كذلك أيضا ، ولكن المهم أنه مع كل درجة كان يرتقيها الحشد الشبابي ، كانت تتحقق درجة أعلي من (الالتفاف) الجماهيري في المناطق الحضرية الرئيسية علي امتداد محافظات "الجمهورية" . أما الدرس الرئيسي المستفاد من النموذج الثوري (التونسي - المصري) فهو أمران : أولهما : أنه في حال اتساع الحشد الشبابي - الجماهيري لدرجة مستوعبة - مادياً ومعنوياً - للغالبية الشعبية الساحقة من المجتمع ، يصبح من المؤكد انضمام المؤسسة العسكرية إلي الحركة الشبابية الشعبية ، مما يجعل تحقيق هدف " الثورة " مضمون النجاح تقريباً . ثانيهما : أن افتقاد القيادة، والتنظيم، والوضوح والتماسك الفكري، للنواة (المركزية) المحركة للثورة (كحالة ائتلاف شباب الثورة في الحالة المصرية) ، يجعل حركة الثورة قابلة لتباطؤ " قوة الدفع " لدرجة تسمح للقوي (الهامشية) بالسيطرة علي مسار الثورة المستقبلي .. هذه القوة الهامشية ، في ميزان عملية 25 يناير، تتمثل - في الحالة المصرية تحديداً - في كل من القوي السياسية (الإسلامية) من "الإخوان المسلمين" و " السلفيين" ، والقوي السياسية المنسوبة للنزعة "الليبرالية " . ثانيا : نموذج "الثورة المغدورة" (اليمن والبحرين). طبقا لهذا النموذج - وفي حالة اليمن تحديدا- ولدت "الثورة" بالفعل علي النمط التونسي - المصري ، بل ربما سبقت اليمن كل من تونس ومصر علي طريق الحركة الثورية ، كما حققت شرط الحشد الشبابي والالتفاف الجماهيري، ولكن لم تحقق النتيجة اللازمة لهذا الشرط، وهي انضمام المؤسسة العسكرية الرسمية الرئيسية إلي حركة الثورة، و بالتالي لم تنجح هذه الحركة في تحقيق هدفها الأّولي المفترض وهو إسقاط النظام ، ابتداء بإسقاط رأسه الواحد أو رؤوسه المتعددة . فلماذا ؟ إن الدرس المستفاد هنا أن استكمال التحشد الشبابي - الجماهيري شرط ضروري لنجاح حركة الثورة ، ولكنه ليس شرطاً كافياً . والشرط الكافي هو توفر الإطار الاقليمي والدولي الملائم أو الموالي للحركة الثورية. ولقد كان هذا الإطار ملائماً وموالياً للثورة التونسية والمصرية ، لا لشيء - ربما - إلا لأن القوي الإقليمية والدولية ذات المصلحة في عدم نجاح الثورة الشعبية الحقيقية لم تكن جاهزة لعرقلة الثورة التي فاجأتها في الحالتين المصرية والتونسية ، وحققت بعنصر المفاجأة هدفها الحالّ المباشر في إسقاط النظام . إن هذه القوي، ممثلة في كل من " مجلس التعاون الخليجي " علي الصعيد الإقليمي ، و "حلف الناتو" أو "الاطلنطي" علي الصعيد الدولي، لم تكن قد رتبت - بعد - أوراقها السياسية والعسكرية والاقتصادية، للتعامل مع الثورة التونسية والمصرية ، فترك زمام المبادرة في يد الطرف المحلي الثوري وتحقق الهدف المباشر . أما في الحالة اليمنية، فقد لعب عامل الوقت لصالح النظام الحاكم ، بفعل تدخل "مجلس التعاون الخليجي" وخاصة السعودية ، من ناحية ، وأمريكا معها أوروبا ، من ناحية أخري ، لإتاحة الفرصة الكاملة للنظام الحاكم من أجل ممارسة لعبة (المماطلة)، وأعطاه هامشاً واسعاً للمناورة ، وحال دون انحياز القوات المسلحة ككل بصورة سافرة إلي صف "الثورة الشبابية الشعبية"، وقد أدي كل ذلك إلي ضياع أوراق عدة من بين أيدي الطرف الثوري ، وأفقده زمام المبادرة إلي حد بعيد. ولئن كانت حالة اليمن تقدم تمثيلاً صافياً لنموذج الثورة المغدور بها ، فإن حالة البحرين تقدم تمثيلاً بدرجة أقل لنفس النموذج - إذ أن التدخل العسكري من قبل قوات (درع الجزيرة) التابعة لمجلس التعاون الخليجي ، بقيادة السعودية ، قد حال دون تبلور الحدث الثوري تبلوراً كاملاً ، بعد بروز أماراته وإرهاصاته البازغة ، من خلال الحشد الشبابي والالتفاف الشعبي في ميدان (اللؤلؤة) . ثالثا : نموذج إجهاض الثورة (حالة ليبيا). طبقا لهذا النموذج ، وحالته الممثّلة ، لم يتح للثورة أن تولد أصلاً ، فقد أجهضت تحت وطأة التحول من حركة سلمية إلي عمل عنفي عسكري الطابع ، اتخذ شكل حرب داخلية فور ظهور بوادر الاحتجاجات ، وسرعان ما تحولت إلي حرب دولية - أطلنطية من خلال التدخل العسكري الأجنبي بغطاء من جامعة الدول العربية. وقد أدي التدخل العسكري لحلف الأطلنطي مدعوماً بالمال والسلاح من بعض بلدان الخليج - قطر والإمارات في المقام الأول - إلي تعميق اشتغال الآلية القبلية سلبياً ، من ناحية أولي، وإلي بدء عملية تحويل ليبيا إلي منطقة لممارسة النفوذ الغربي والأمريكي في قلب الوطن العربي ، من ناحية ثانية . ولربما، لا يزال الأسوأ لم يقع بعد في ليبيا للأسف، إذ من المحتمل ، نتيجة العاملين السابقين ، وقوع تداعيات قاسية بعد فترة تأجيل زمني متوقعة علي كل حال . وبصفة خاصة ، فإن فرض "الأمر الواقع" علي مناطق معتمدة لقبائل نافذة ، في مقدمتها ورفلّة والقذاذفة وبعض بطون قبائل سبها، وممارسة أقصي درجات العنف المجسد لإخضاعها عسكرياً ، لن تظهر تداعياته ذات الطابع التدميري إلا بعد فترة تأجيل معينة، كما أشرنا . وليس ذلك إلا تطبيقاً للمبدأ الأمريكي-الأطلنطي، القائم علي "الاستئصال العضوي للخصوم" ، دون ترك أي فرصة لحدوث توافق محلي أو أهلي يقوم علي قواسم مشتركة بين الخصوم داخل الوطن الواحد. وذاك ما تمت تجربته في العراق ، ثم في أفغانستان وباكستان ، وقبله في لبنان - وكانت نتائجه ذات طابع مأساوي إزاء تماسك النسيج الاجتماعي الوطني في الأقطار العربية والإسلامية المعنية . رابعا : نموذج الولادة المبتسرة (سوريا). وطبقا لهذا النموذج -في حالته السورية - لم تصل حركة الاعتراض قط إلي الاتساع الكمي، والعمق الكيفي الذي بلغته أحداث الثورة التونسية والمصرية . ويعود ذلك إلي أسباب متعددة في الظاهر والباطن. وأما السبب الظاهر فهو عزوف كتل شعبية ضاربة في أعماق الحضر السوري (وخاصة في دمشق وحلب) عن المشاركة في التيار العارم "للاعتراض"، والذي سرعان ما داخلته أحداث العنف المسلح لجماعات متظاهرة في بعض الأرياف والمدن متوسطة الحجم، من ناحية أولي، وتدخل أطراف خارجية ، اقليمية ودولية ، سياسيا وإعلامياً وعسكرياً ، لدعم حركة الاعتراض العنيف ، من ناحية أخري. ولذلك ، لم نشهد في سوريا احتشاداً شبابياً والتفافاً شعبياً علي النمط المصري بصفة خاصة، فكان المولود مبتسراً أو ناقص النضج . وأما السبب الباطن ، فلعلّه كامن في اختلاف طبيعة المكانة الجيوبولتيكية لسوريا اختلافاً جذرياً عن الموقع السياسي للنظام المباركي في مصر بصفة خاصة ، علي خريطة التقاطعات الإقليمية والدولية . ولذا، ربما يمكن القول بأن حركة الاعتراض السورية قد تفتقد شطراً لا بأس به من شرعية التبرير علي المستوي العربي القومي بصفة خاصة ، برغم ما هو مسلم به من طابع "احتكار السلطة" لدي النظام الحاكم ، وتباطؤ وتيرة التغيير السياسي ، وعقم ما سمي بالإصلاحات الاقتصادية في سوريا خلال السنوات الخمس الأخيرة بالذات ، بحكم طابعها "النيوليبرالي" . ولكن إلي أين تفضي الولادة المبتسرة للحركة الاعتراضية في مواجهة عناد النظام الحاكم في سوريا، وعدم رغبة بعض الأطراف النافذة داخل هذا النظام، في تحقيق اختراق جدي علي طريق الإصلاح الضروري المطلوب..؟ والتدخل الفجائي للجامعة العربية بقوة دفع خليجية متوائمة مع الرغبة الغربية - الأمريكية..؟ إلي أين يفضي كل ذلك ؟ هذا ما لا نستطيع القطع به في اللحظة الراهنة. ولكن السؤال الأكبر علي المستوي العربي العام - سؤال الوقت - هو : هل تفضي التغيرات العربية الأخيرة إلي "ربيع عربي" حقاً ، وفق الاصطلاح المروّج له من أجهزة الدعاية الغربيةوالأمريكية ، أم أنها ستفضي إلي "ربيع غربي وأمريكي" .. لا قدّر الله .. ؟ أم أنه "ربيع غربي - إسلاموي" ، قائم علي توافق ظرفي معين بين الطرفين.. ؟ أم أنه، و أيا كانت (سيناريوهات) المدي القريب والمتوسط، فإن المدي الأبعد زمنا سوف يشهد الغلبة لمركب سياسي مختلف ، ممثل لائتلاف قوي المستقبل العربي الحق ، وفق رؤية اليسار الاشتراكي - العروبي (المتصالح سياسيا بالضرورة مع الإسلام المؤتلف مع المسيحية الشرقية)..؟ هذا ما نأمل ، فنرجو أن يكون أكثر المسارات المستقبلية قابلية للتوقع ، ولنعمل إذن من أجل خروجه، في أقرب وقت ممكن تاريخيا، من حيز "الإمكان" إلي حيز "الفعل" ، ومن بحر الظلمات إلي بحر النور. من الذي يريد أن نقول: أين هي هذه الثورة؟! عريان نصيف إذا كنا نعي جيدا أن وزيري الزراعة المتعاقبين - منذ انتصار ثورة 25 يناير النبيلة- هما- كباقي المسئولين عن حكم مصر في هذه المرحلة الانتقالية- قد توليا مسئولية مؤقتة بطبيعة الحال، ولا يمكن أن نطلب من أيهما أو من غيرهما اجراء التغيير الحقيقي لسياسات نظام الحكم المخلوع التي دمرت - علي مدي أربعين عاما ثقالا- مصالح الزراعة وحياة الفلاحين. فإننا - في نفس الوقت- ومن منطلق المصارحة الواجبة والضرورية تجاه القضايا التي تهم الوطن والشعب، لا نجد أي تبرير أو تفسير لما نراه من أوجه التقصير في حق فلاحي مصر صانعي حضارتها ومقدمي خيراتها، من جانب الوزيرين المتعاقبين وكل المؤسسات التي وكلت إليها أرواح شهداء ثورة 25 يناير ودماء مناضليها، مسئولية حكم مصر في الفترة الانتقالية ، وخاصة بعد مرور أكثر من 9 شهور علي ذلك. هل كان توقيت المسئولية، يمنع من تقديم رؤية استراتيجية عامة، تؤكد ادراك المسئولين والحكام المؤقتين، للواقع الفلاحي/ الزراعي من ناحية ، وتضع أسس تغييره مستقبلا من ناحية أخري؟ هل كان تأمين المسئولية، يمنع من اتخاذ قرارات سياسات عاجلة وحاسمة تجاه بعض القضايا القائمة والملحة والتي يؤدي تجاهلها إلي المزيد من إهدار الزراعة والاضرار بمصالح وحياة الفلاحين، مثل : - التعامل الصحيح والعدال- والحريص علي البعد الاجتماعي- بالنسبة لديون الفلاحين لبنك التنمية والائتمان. - الايقاف الفوري لممارسات هيئتي الإصلاح الزراعي والأوقاف في طرد الفلاحين من اراضيهم ومساكنهم علي غير حق قانوني أو واقعي. - الضرب بشدة علي ايدي المحتكرين للسماد والحاصلات الزراعية. .. هذه مجرد نماذج محدودة لما كان واجبا علي المسئولين المؤقتين أن يقوموا به، ولم يقوموا به. .. فهل هناك من يريد أن يقول الفلاحين- وباقي جماهير الشعب»- أين هي هذه الثورة؟!