عودة حروب التدخل ضد الثورات .. ومعها لعل اخطر ما حملته الانباء التي تتابع مجريات وتطورات الثورات فيما اسمي منذ البدايات الاولي بالربيع العربي هو النبأ الذي ينبيء بان تدخلا علي الطريقة التي نفذها حلف الاطلنطي في ليبيا يوشك ان يحدث في سوريا. واخطر ما في الامر ان التدخل من جانب الغرب - حلف الاطلنطي غالبا - سيرسخ نمط التدخل العسكري ضد ثورات الربيع العربي بصورة لم يسبق لها مثيل. ذلك ان التدخل في ليبيا كان يتعلق بحالة واحدة فاذا اضيف اليها تدخل عسكري في سوريا فان الامر يتحول الي نمط. يصبح التدخل من جانب الغرب عسكريا نمطا سلوكيا من جانب العالم الغربي في المنطقة العربية قابلا للتكرار وفي اي مكان يريد الغرب ان يثبت فيه نفوذه. لقد حثت المعارضة في سوريا "المجتمع الدولي" علي ان يرسل "مجموعات لمراقبة الهجمات العسكرية علي المدنيين ولردع هذه الهجمات". هكذا بالتحديد كان "الثوار" في ليبيا قد بدأوا طلبهم من العالم الغربي - تحت اسم المجتمع الدولي" - ان يتدخل في الصراع المسلح في ليبيا بينهم وبين نظام العقيد معمر القذافي. ولم تمض ايام علي هذا الطلب حتي كانت الولاياتالمتحدةالامريكية تقود التحرك الدبلوماسي في الاممالمتحدة لاستصدار قرار من مجلس الامن يسمح بالتدخل "لحماية المدنيين الليبيين" من نيران القوات الحكومية، نيران "الموالين للعقيد معمر القذافي". ولم تمض ساعات حتي كان مجلس الامن يصدر هذا القرار بصياغته الامريكية دون تردد كبير حتي ان روسيا والصين اللتين كانتا تعارضان التدخل العسكري الغربي في ليبيا لم تصوتا، اي لم تستخدما حق الفيتو ضد هذا القرار. وزادت "شرعية" القرار بان انضمت ثلاث دول عربية هي قطر والامارات العربية المتحدة والاردن الي دول حلف الاطلسي بقيادة بريطانيا وفرنسا الي هذا التدخل العسكري. ولقد كان الظن الذي ساد داخل الاممالمتحدة وخارجها ان قوة حلف الاطلنطي الجوية لن تحتاج لاكثر من ايام او ربما اسابيع علي اقصي تقدير لتنتهي من مهمة كسر شوكة قوات القذافي، ولكن دور الحلف وقواته الجوية بصفة خاصة - فضلا عن القوات الخاصة البريطانية والفرنسية والالمانية - لا تزال مستمرة بعد انقضاء اكثر من ستة اشهر علي بداية التدخل في هذه المهمة التي بدت في بداياتها مهمة يسيرة بكل المقاييس. ولقد ساد اعتقاد قوي في العالم - بما في ذلك داخل دوائر الاممالمتحدة - بان التدخل الغربي العسكري في ليبيا هو الحالة الوحيدة للتدخل في الثورات العربية، ولكن الشواهد والتطورات دلت علي ان الغرب بزعامة الولاياتالمتحدة لم يكف يوما واحدا عن التدخل في كل من البلدان التي تفجرت فيها ثورات ما اسمي بالربيع العربي. فقد لعبت الولاياتالمتحدة دورها بممارسة الضغط باشكاله السياسية والاقتصادية والدبلوماسية بصفة خاصة علي مصر من خلال علاقاتها المستمرة منذ سنوات طويلة مع المؤسسة العسكرية المصرية والتي لم تتاثر باحداث ثورة 25 يناير. وبدا الضغط الامريكي علي الثورة المصرية في اقصاه في التهديد الذي وجه الي السلطات المصرية اثر اندلاع المظاهرات الجماهيرية ضد السفارة الاسرائيلية في القاهرة والمطالبة بطرد السفير وكذلك بالغاء معاهدة كامب ديفيد. وبطبيعة الحال فان الضغط الغربي لم يقتصر علي الضغط الامريكي علي مصر انما امتد بصوره السياسية والاقتصادية ليطال تونس وسوريا واليمن، اي انه لم يستثن ايا من البلدان التي انطلقت فيها ثورات ضد النظم القديمة. لكن، تبقي الحالة السورية هي الحالة الثانية بعد ليبيا التي يهددها الان تدخل عسكري. وفي هذه الحالة فان موقف كل من روسيا والصين في مجلس الامن لايزال يشكل- حتي ساعة كتابة هذه السطور - حائلا دون صدور قرار "اطلنطي" من مجلس الامن يسمح بتدخل عسكري في سوريا. وفضلا عن هذا فان الدور الذي تلعبه جامعة الدول العربية وامينها العام الجديد الدكتور نبيل العربي لا يزال يشكل حائلا آخر دون فتح الباب علي مصراعيه امام تدخل عسكري غربي في سوريا. فهل يمكن الظن بان وضوح دور الجماعات والتنظيمات الاسلامية - مثل القاعدة او حتي الاخوان المسلمين في "الثورة" السورية يمكن ان يخلق دافعا قويا للغرب للامتناع عن التدخل في سوريا عسكريا لحسم المعركة لصالح المعارضين؟ ان الاجابة علي هذا السؤال تعيدنا الي الوضع في ليبيا. فقد كان واضحا من البداية الاولي للعمليات ضد نظام القذافي انها تخضع لقيادات اسلامية متطرفة علي راسها تنظيم القاعدة. بل ان معمر القذافي كان اول من وجه تحذيرا الي الغرب من ان تنظيم القاعدة هو الاقوي بين المعارضين له في ليبيا وان السلطة اذا انتقلت بقوة السلاح فانها ستنتقل الي الجماعات الاسلامية المتطرفة. ولم يحل هذا دون التدخل العسكري الاطلنطي في ليبيا. وفي التطورات الاخيرة وما تحمله من انباء عن تناقضات تصل الي حدود الصدامات بين "الثوار" في ليبيا بعد ان اصبحوا قاب قوسين او ادني من الانتهاء تماما من بقايا مقاومة نظام القذافي ما يكشف ان الغرب مستعد لكل الاحتمالات التي يمكن ان تنشأ عن ذلك. وقد فسر المعلقون الغربيون انفسهم هذا الاهتمام بليبيا حتي وان اصبحت تحت سلطة اسلاميين متطرفين بانه يرجع الي اهمية ليبيا البترولية لكل من الدول الغربية وبالاخص اوروبا والولاياتالمتحدة. ان الغرب مستعد للتحالف مع الد أعدائه من اجل الاستمرار في الحصول علي البترول الليبي. وبطبيعة الحال فانه لا تفكير هنا من جانب الغرب فيما يمكن ان تكون مصلحة الشعب الليبي وتوجهاته السياسية. وتعود هذه الحقيقة بنا الي زمن بعيد للغاية، الي زمن كانت فيه الثورة الروسية البلشفية في سنواتها الاولي. فبعد تفجر هذه الثورة في اكتوبر عام 1917 لم تتردد المؤسسات العسكرية في الغرب - ولم تكن قد اقامت احلافا عسكرية بينها بعد - في شن "حروب التدخل" بطول البلاد الروسية وعرضها في محاولات مستميتة لافشال الثورة البلشفية واخضاع روسيا من جديد للراسمالية بصرف النظر عما ذاقته الشعوب الروسية من آلام وحرمان علي ايدي الراسماليين الروس والالمان والبريطانيين. لهذا تحالفت هذه الدول الرأسمالية وجنرالاتها البارزون في حروب التدخل علي امل اجهاض الثورة البلشفية وابعاد خطر الاشتراكية عن اوروبا. وقد استمرت هذه الحروب لنحو ثلاث سنوات ولكنها اخفقت في ان تحقق اي نتيجة في مواجهة الجيش الاحمر الذي كان يقوده آنذاك الزعيم الروسي تروتسكي. وانتهت حروب التدخل الغربية الي فشل كامل استغرقت بعده هذه الدول سنوات قليلة قبل الاعتراف بحكومة السوفييت. المساحة الزمنية شاسعة بين حروب التدخل الغربية ضد الثورة الروسية وكذلك المساحة السياسية بين ثورة روسيا وثورات الربيع العربي التي بدات تختطفها واحدة بعد اخري جماعات التطرف الديني. ولكن المساحة اكبر كثيرا بين التدخل الغربي ضد الثورة الروسية والتدخل الغربي الي جانب "الثورات " العربية ومن اجل نصرة القيادات التي استولت عليها. ان التطورات وشواهدها في الوقت الحاضر تدل علي ان الصراع علي مصير ثورات الربيع العربي سيكون طويلا ومريرا. يزيد من مرارته دور العسكرية الغربية فيه.