تمر تونس اليوم بفترة انتقال محفوفة بالعوائق والمخاطر، ومحفوفة خاصة باللا يقين:هل ستكون انتقالاً من نظام إلي نظام مع استمرارية الدولة كما يقتضي التقليد السياسي التونسي، أم ستكون، كما يريد"حزب الانتقام"من الحداثة التونسية، انتقالاً من دولة إلي دولة أو حتي، علي الأرجح، إلي اللادولة، إلي الصوملة؟ الحكومة المؤقتة والفاعلون السياسيون الواعون بما يترصد وطنهم من أخطار يتحركون في حقل ألغام؛ أشدها خطراً لغم الأمن:التوتر العالي بين الجهات ، والاشتباك بين القري، والاقتتال بين الأحياء لأقل شائعة أو أتفه الأسباب، أو غيرها من مظاهر العنف التي سيتكفل قانون المحاكاة بتعميمها.اللغم الآخر، الذي لا يقل خطراً هو لغم عجز الحكومة المؤقتة، أمام إصرار حزب الانتقام علي إفلاس الاقتصاد الوطني، عن إعادة البلاد إلي العمل، و هي قضية حياة، اقتصادها أو موته واستقرارها وبقاؤها كدولة صاعدة كما كانت توصف في تقييم المؤسسات الدولية منذ أكثر من 10 أعوام. الخطيئة المؤسسة للعجز عن إعادة الأمن إلي التونسيين وإعادتهم إلي العمل هي نجاح حزب الانتقام حتي الآن في التقدم علي درب القطيعة مع تقليد استمرارية الدولة الذي ظل أحد ثوابت التاريخ السياسي التونسي منذ ظهور الدولة الحسينية(=نسبة إلي مؤسسها الباي(=الملك)حسين بن علي)سنة 1705.وحتي الحماية الفرنسية(1881)وضعت الدولة التونسية تحت وصايتها ولكنها مع ذلك لم تقطع مع استمراريتها: استمرارية نخبها السياسية والإدارية والاقتصادية.بالمثل، نظام الاستقلال الجمهوري تخلص من الباي وحافظ علي استمرارية الدولة.تونس لم تستمر تعمل وحسب، بل ضاعفت وتائر العمل أضعافاً؛بورقيبة كان يقول:" نفطنا هو المادة الرمادية(=الدماغ)" ، و يبدو أن حزب الانتقام حكم علي هذه المادة بالكسل. أما الانتقال من العهد البورقيبي إلي"العهد الجديد"، عهد 7 نوفمبر 1987، فاستمرارية الدولة فيه، سياسياً واقتصادياً وثقافياً وتشريعياً وحتي رمزياً كانت أوضح من أي انتقال مضي؛الشوارع والمدن التي تحمل اسم بورقيبة ظلت علي حالها.بن علي لم يكن يحبه.لكن، التزاماً بأخلاق المسئولية، لم يترجم كراهيته الشخصية له إلي عداوة لنظامه السياسي الاجتماعي؛بل إن نظام بن علي، كما وصفه أحد مؤرخي بورقيبة وقادة حزبه، محمد الصياح:"هو البورقيبية بلا بورقيبة"؛فجميع مكاسب العهد البورقيبي الحداثية توسعت، تعممت وتعمقت. حاول الوزير الأول في الحكومة الانتقالية الأولي ، وباني الاقتصاد التونسي ورمز ثقة المؤسسات المالية الدولية فيه، محمد الغنوشي، المحافظة علي تقليد استمرارية الدولة في الانتقال الجاري، لكن حزب الانتقام نجح في طرده وإسقاط حكومته ...خلفه في رئاسة الحكومة المؤقتة الثانية أحد آخر الأحياء من بقايا النخب البورقيبية، باجي قائد السبسي؛اعتبر حزب الانتقام تكليف بورقيبي برئاسة"حكومة الثورة" استفزازاً له فاستنكر راشد الغنوشي، وهو أبرز الناطقين باسمه ، والذي مازال مصراً علي أن بورقيبة"كافر" لا يجوز الترحم عليه، "المجيء برئيس حكومة من الأرشيف"، فداعبه "سي الباجي"متهكماً:"وأنت ألم تأتِ من الأرشيف؟"، في تلميح شفاف إلي أن الغنوشي ظل منذ حوالي 40عاماً رئيساً لتنظيمه الديني الذي غير اسمه مراراً ولكنه لم يغير رئيسه مرة واحدة!. حزب الانتقام استراتيجيا حزب الانتقام هي القطيعة مع استمرارية الدولة التونسية كمدخل ضروري للقطيعة مع الحداثة التونسية، خاصة منها مجلة الأحوال الشخصية وعقلانية التعليم . أداة هذه القطيعة هي "التطهير" في جميع المؤسسات بما فيها المؤسسة الدينية؛فقد بادر أقصي اليمين الإسلامي إلي طرد الأئمة غير الموالين له من الجوامع، وعوضهم بأتباعه ليجمعوا له الزكاة علي طريقة ملالي إيران ويحثوا المصلين علي التصويت له في الانتخابات. "حزب الانتقام" الذّهاني، الذي فقد الصلة بالواقع التونسي والدولي، مصمم علي منع المصالحة الوطنية الشاملة، التي يعي أنها ستقطع الطريق علي مساعيه لتحقيق القطيعة مع استمرارية الدولة والنتائج الكارثية المترتبة عليها.سلاحه اليوم هو تحريض الشارع علي رفض العودة إلي العمل مستخدماً لهذه الغاية التظاهر المتواصل لحماية الثورة من "السرقة"! وقد يضيف له غداً سلاح التشريع عندما يسيطر نوابه المهووسون ب"أخلاق القناعة"(انظر:المصالحة الوطنية أو المجهول)علي مجلس الأمة.إذا كانت أخلاق المسئولية تري الواقع كما هو بكل تعقيداته وتقرأ له حساباً، فإن أخلاق القناعة تنظر للواقع لا كما هو واقع فعلاً ، بل كما يجب أن يقع.أما الواقع المعيش فهي مقطوعة عنه ولامبالية به.من هنا كانت "أخلاق القناعة"عائقاً للمصابين بها عن تحمل مسئوليات سياسية تتطلب الاعتراف بالواقع والتعامل معه بكل واقعية. حالة حرب المسألة المركزية لكل مجتمع هي التحكم في العنف ؛أو في "حالة الطبيعة"كما سماها هوبز، أي حالة حرب الجميع علي الجميع.كيف؟أولاً باحتكار الدولة وحدها للعنف المشروع : فمحظور علي أي كان غيرها أن"يطهر"أو يطرد من الجامع أو الجامعة أو البنك ... أو يحمل السلاح ل"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، وثانياً بتوسيع قاعدة النظام الاجتماعي بفتحه أمام النخب والفئات التي بقيت علي هامشه، وثالثاُ بتوسيع حقوق المواطنة الكاملة للجميع:للنساء والأقليات ، ليشترك الجميع في تقاسم السلطة والثروة والخدمات.الغاية من المصالحة الوطنية هي التحكم في العنف. وظيفة البرلمان الأولي في أوربا القرن ال 19 كانت التحكم في العنف لقطع الطريق علي الاغتيالات والانقلابات والثورات السياسية، ليصبح ممكناً اسقاط الحكومات في حرَم البرلمان وليس في الشارع. فالبرلمان لم يعد نادياً تحتكره طبقة، بل غدا بما هو المكان الملائم آنذاك لصنع القرار والملائم أيضاً لكي تحصل فيه كل فئة علي حصتها من الثروة والسلطة والخدمات حسب وزنها البرلماني.عندما أوصل عمال هولندا لأول مرة ممثليهم إلي البرلمان، كتب ماركس، في رسالة لإنجلز:"هكذا أصبح بإمكان الطبقة العاملة أن تصل إلي الحكم بالانتخابات". في القرن العشرين، واصلت النخب الأوربية دمج العمال والطبقات الشعبية في مجتمع الاستهلاك لإبعادها عن استخدام العنف ؛فاعترفت للأجراء ومَن في حكمهم بالضمان الاجتماعي والصحي والإجازات المدفوعة الأجر لهم ، وللأمهات الحاملات، ورياض الأطفال المجانية ومجانية التعليم ... وهي كلها حقوق قابلة لحسابها نقديا . سرّ الاستقرار والسلام الاجتماعي في أوربا كان دائماً مزيداً من تمدين النظام الاجتماعي بتوسيع قاعدته الاجتماعية عبر دمج من لم يدمجوا فيها بعد؛وليس تضييق قاعدته بشتي أنواع الإقصاء التي هي وصفة للعنف كما تفعل الأحزاب المتطرفة عندنا!. إذا لم تمتلك النخب التونسية الحية الإرادة السياسية لدمج جميع النخب والفئات في النظام السياسي بعيداً عن الاعتبارات السياسوية ، فستعطي الفرصة لمجانين السياسة ومجانين الله لإخراج قاطرة تونس من سكة السلامة إلي سكة الندامة:سكة العنف والاقتتال الجهوي(=المحافظات) والقروي وبين الأحياء وداخل العائلة الواحدة!.