المبادرة المنتظرة من الرئيس مبارك هل يمكن للرئيس مبارك أن يعلن عن مبادرة بحكم سلطاته الدستورية كرئيس لكل المصريين يدعو من خلالها لعقد مؤتمر عام يبحث في المسألة المصرية ويتخذ ما يراه من قرارات كفيلة بإعلاء شأن المواطنة وتعزيز قيم الوحدة الوطنية؟! يروي أن مالك بن دينار كان يخطب في المسجد حتي بكي الناس واشتد نحيبهم.. ولما هم بالانصراف، اكتشف سرقة المصحف الخاص به، فصاح في الحاضرين: «كلكم يبكي.. فمن سرق المصحف؟». نعم.. المسئولون جميعا أدانوا جريمة الإسكندرية وأعلنوا أن مرتكبيها «خونة لا وطن لهم ولا دين» واستمرت تصريحاتهم علي نفس المنوال لعدة أيام.. لكن أحدا منهم لم يتطرق إلي حالة الاحتقان العام ومناخ التوتر في المجتمع حتي وصلت البلاد إلي هذا الحال. وإذا كان أسلوب تنفيذ العملية الإرهابية يشير إلي احتمالات وجود عناصر أجنبية إلا أن المتوقع أن يكون المنفذ مصريا «للأسف» استطاع الظلاميون أن يمسحوا عقله أو يستغلوا جهله، وليس بعيدا عن الحقيقة إلي حد كبير ما نشرته صحيفة «فايننشيال تايمز» البريطانية حين قالت: «في الأغلب نفذ العملية متشددون مصريون باستخدام الأساليب التي تستخدمها القاعدة». ولذلك يتفهم الجميع حالة الغضب العام والغضب في أوساط المصريين الأقباط بوجه خاص.. فهو ناتج عن تراكمات لا تريد الحكومة أن تزيل الكثير منها. وإذا كان المسئولون يتكلمون عن «الشعب الواحد» فإلي متي - مثلا - يستمر أسلوب الحفظ والتلقين في التعليم.. وهو أسلوب يخلق مواطنا تسهل قيادته بعد أن ألغي عقله ونسي قيمة اسمها التفكير والتحليل والاستنباط وما إلي ذلك، ويبدو أن حكامنا يريدون مثل هذا الذي تسهل قيادته ليظل الاحتكار أبديا لهم ولحزبهم وينسون أن هذا أيضا ما يريده الظلاميون حتي يستطيعوا التغلغل بين شباب لا يعتمد العقل منهجا في حياته. نبذ العنف والتمييز وعندما كان د. حسين كامل بهاء الدين وزيرا للتربية والتعليم، طبعت الوزارة كتابا تعليميا جميلا بعنوان «القيم والأخلاق» وجري توزيعه علي أطفالنا في المدارس الابتدائية وكان يهدف من تدريسه إلي تعزيز قدرات التلاميذ علي احترام الديمقراطية، وإكسابهم القدرة علي تقدير التراث المصري الإنساني، وتكوين جيل مؤمن بالسلام ونبذ العنف والتطرف ويؤمن بالمحبة والإخاء علي أساس أن الدين المعاملة، وتنشئة جيل يتمتع بمقومات المواطنة الصالحة، وتنمية مهارات الاتصال والحوار مع الآخرين.. إلي جانب أهداف أخري كثيرة. فإذا تصفحنا كتاب «القيم والأخلاق» نجد عبارات مثل: «كان جورج ماهرا في لعب الكرة.. مارجريت ومني صديقتان تشتركان في اللعب والمذاكرة.. قال عبدالرحمن لزميلته إيفون عندي حصالة عليها رسم جميل.. وهكذا». وليس نوعا من الإطالة إذا نقلنا من الكتاب نفسه بعض ما جاء فيه عن تكافؤ الفرص فيقول: «إن تكافؤ الفرص هو أن ينال كل فرد في المجتمع فرصته التي يستحقها في الحياة متساويا مع غيره دون تمييز أو محسوبية» و«بتكافؤ الفرص يتحقق الاستقرار في المجتمع». ولكن الغريب أن هذا الكتاب لم يحظ باهتمام الكثير من المدارس، وما إن ترك حسين كامل بهاء الدين منصبه الوزاري توقفت الوزارة نهائيا عن طبعه وتوزيعه كما لو كان هذا المنهج جريمة، بينما الجريمة الحقيقية هي في إلغاء مادة «الأخلاق والقيم»، فمن المسئول عن ذلك؟ هل هي أحزاب المعارضة أم جهات ظلامية متنفذة في الحكم - لها سلطة اتخاذ القرار - والتي يهمها بقاء الحال علي ما هو عليه؟ مقترحات قديمة جديدة وقد أعلن د. علي جمعة مفتي «الجمهورية» عن أن تطوير الخطاب الديني يتطلب اهتماما بتطوير المناهج الدراسية وهو ما تنادي به أحزاب عديدة، كما أعلنت مؤخرا د. مشيرة خطاب عن إعداد وزارتها لتقرير يتضمن مقترحات بمراجعة مناهج المرحلة الأساسية الابتدائية لمادتي اللغة العربية والدراسات الاجتماعية وإمكانية دمج قيم المواطنة وقبول التعددية بشكل أكبر في تلك المناهج.. وهو ما يطالب به كثيرون منذ زمن لكن قوي التخلف المتنفذة تقف ضد محاولات إنقاذ الوطن. وإذا كانت وزيرة السكان تقترح أن تتضمن المناهج قبول التعددية فهو أمر جميل ولكن يبقي السؤال: هل يمكن للتلميذ أن يتفهم التعددية بينما يري علي أرض الواقع جماعة متحكمة في البلاد والعباد ترفض التعددية، وبينما يستمعون للمسئولين وهم يلوكون كلمة «الديمقراطية» ويتغنون بها تقوم سياستهم علي نفي الآخر من أحزاب ومنظمات وقوي فاعلة في المجتمع، كما لو كانوا يقولون للجميع: «مفيش علي الأرض غيري ومصر بلدنا لوحدنا» وكما لوكان الجميع - باستثناء جماعة الحزب الوطني - ضيوفا علي الوطن. الافراج عن النقابات ويتشدقون بالدعوة للدولة المدنية ويتجاهلون أنها ليست مجرد شعارات لكنها تتحقق عندما تختفي أيضا الدولة البوليسية، وعندما يشعر كل مواطن مصري بقيمته في صنع القرار، وبالشراكة الحقيقية - دون تزوير - في انتخاب ممثليه، وفي الحصول علي حقه في العمل والسكن والعلاج والحياة الكريمة وأمور كثيرة أخري تمهد الطريق نحو المواطنة الكاملة كعنوان رئيسي للدولة المدنية. ويملأون الدنيا ضجيجا بدعمهم للمجتمع المدني ويتجاهلون كل الأصوات العاقلة التي طالبت علي مدي أكثر من 15 عاما بضرورة الإفراج عن النقابات المهنية «جوهر المجتمع المدني» لكن الحكم اختار تجميد هذه النقابات ومازال يحاول أن يخرج بتخريجه تلتف علي الحكم بعدم دستورية قانونهم رقم 100 الذي أدي إلي هذه الحالة من الجمود في نقابات عديدة. عقلانية الطيب والدولة المدنية لا تتناقض إطلاقا مع ضرورة عودة الأزهر لريادته، فعندما تراجع دور الأزهر انتشرت زوايا التطرف، وقد تنبه فضيلة الإمام الأكبر د. أحمد الطيب لذلك حينما أعلن أن المشكلة لها أبعاد عديدة منها الزوايا تحت البيوت والتي لا تملك الأوقاف أي سيطرة عليها، وعندما أعلن عن مبادرة «بيت العائلة المصرية» الذي يضم علماء المسلمين والأقباط وهي فكرة تحتاج إلي جهد كبير ليكون لها دورها الفاعل في المجتمع، وكان شيخ الأزهر - بسيطا - في رده العميق علي دعاة الفتنة الذين قالوا بعدم جواز سلام المسلم علي المسيحي حين قال متسائلا: «كيف يكون ذلك والإسلام يجيز للمسلم أن يتزوج بمسيحية؟ يعني يكونوا متغطيين بلحاف واحد ولا يسلم عليها»، إن وسطية الأزهر حين يعود لدوره قادرة علي تجفيف منابع فكر البداوة الذي انتشر كالنار في الهشيم.. وكل المسئولين يتفرجون. وكان إمامنا أيضا حاسما عندما أعلن: بناء جامع بجوار كنيسة قائمة مضايقة وتضييق، إن الرؤية التي يمتلكها شيخ الأزهر تحتاج أن يتحلي بها أيضا أصحاب القرار في مصر.. وهم - مثلا - المسئول الأول والأخير عن اعتقال مشروع القانون الموحد لبناء دور العبادة وحبسه في الأدراج بينما تصدر التعليمات لنواب الحزب الوطني فيصوتون علي صدور ما تشاء له الحكومة أن يصدر من قوانين بين ليلة وضحاها. أين البرلمان ؟! وبمناسبة هؤلاء النواب - علي مر برلمانات الحزب الوطني - فإن المرء يتوقف عند عبارة وردت في بيان مجمع كهنة الإسكندرية والمجلس الملي السكندري وأشارت إلي أن الكنيسة ذاتها تعرضت لحادث منذ أربع سنوات وأسفر عن قتيل وعدة إصابات وقرر مجلس الشعب وقتها تشكيل لجنة تقصي حقائق في ذلك الحادث لكنها لم تزر الكنيسة حتي الآن!!! والملاحظ أن صفوت الشريف أمين عام الحزب الوطني قد اعتاد علي التصريحات بصفة شبه يومية منذ جريمة الإسكندرية ومن بينها قوله: «ما حدث أمر يتطلب المراجعة من الجميع». وأول خطوات المراجعة تبدأ من عند أصحاب القرار فالمصريون في جميع تنظيماتهم الحزبية والنقابية وغيرها يطرحون أفكارا عديدة قادرة علي إنقاذ الوطن ولكن حزب الحكومة لا يسمع إلا نفسه وينسي أن مصر أكبر من الجميع وإذا كانت قوي المعارضة تستعد لعقد المؤتمر الثاني للوحدة الوطنية فهو يحسب لها لكنها لا تملك سلطة إصدار القرار أو تعديل التشريعات أو إقرارها أو إعداد مناهج تعليمية تعلي من شأن المواطنة أو اتخاذ إجراءات كفيلة بالقضاء علي التمييز بكل أنواعه وأشكاله. هذا بعض من كثير نقدمه كحيثيات ندعو من خلالها السيد رئيس الجمهورية كرئيس لكل المصريين بحكم سلطاته الدستورية أن يعلن عن مبادرة تجمع شمل المصريين جميعا في مؤتمر يدرس ويبحث ويناقش ويصدر ما يجمع عليه حاضرو المؤتمر من قرارات بحيث تأخذ طريقها نحو التنفيذ دون أن تعرقلها أغلبية الحزب الوطني. الرئيس مبارك يلتقي في الأغلب مع زعماء المعارضة في معظم الدول الأوروبية عندما يسافر إليها ويستقبل بعضهم عند زيارتهم لمصر ونأمل أن يعيد - بعد غياب طويل - اللقاء مع قادة المعارضة تمهيدا لعقد مؤتمر عام يشارك فيه الجميع إنقاذا للوطن الذي هو أكبر من الجميع.