مليون صوت للمرشح الذي أعاد الحياة للحزب الاشتراگي انتقل الحزب الاشتركي الأمريكي من العصر الذهبي إلي مرحلة من الأفول كادت أن تنتهي بنهايته. نعم كانت فترة العصر الذهبي قصيرة نسبيا لم تدم اكثر من اثني عشر عاما، وكان ذلك في عام 1912. سبقت ذلك العصر مرحلة تراجع متواصل الي حد وصل بعضوية الحزب الي ما لا يزيد علي ثمانية آلاف عضو ...وربما كانت الخلافات والانقسامات التي عصفت بالحزب كثيرة بعدد اعضائه. كاد ان ينقذ الحزب من هذه الحالة بروز تيار "التقدميين" بزعامة روبرت لافوليت في الحملة التي خاض بها انتخابات الرئاسة في عام 1924 وكانت بمثابة صحوة جديدة لطاقة الاشتراكيين السياسية. لكن حالة الافول لم تلبث ان خيمت علي الحزب بنهاية حملة لافوليت التقدمية واخفاقه في نيل الرئاسة، اذ نجح في الفوز بها مرشح الحزب الجمهوري الذي كان قد تولي الرئاسة نتيجة لموت الرئيس وارين هاردنغ وهو في منصب الرئيس قبل عام من نهاية رئاسته. وبدا بعد فشل التقدميين ولافوليت كأن الحزب الاشتراكي لم يجن اي فائدة من هذا الصعود السياسي للتيار التقدمي. لكن اشتراكيا بارزا اخر استطاع بعد سنوات قليلة - بالتحديد في عام 1928 - ان يقود الحزب الاشتراكي الي صحوة وانتفاضة غير مسبوقة. ويجمع المؤرخون الأمريكيون علي ان هذا الرجل - نورمان توماس (1884-1968) - استطاع ان يحقق هذا الانجاز الكبير وحده اذ لا يعود الفضل فيه الا له دون غيره. دخل توماس الحملة الانتخابية لانتخابات الرئاسة في عام 1928 عن الحزب الاشتراكي الذي كانت عضويته قد تدهورت الي ما لا يزيد علي 8 الاف فرد، وبسرعة اثارت دهشة الجميع داخل الحزب وخارجه استطاع من اول خطاب في حملته الانتخابية ان يلفت الانظار وان يجعل للحزب الاشتراكي صوتا يريد كثيرون معرفة ما يقول. وتحولت خطبه الي مادة اخبارية في الصحافة الأمريكية. وتبين ان خطبه كانت ذات جاذبية كبيرة لرجال الدين وكبار المفكرين والمثقفين امثال الفيلسوف جون ديوي والاكاديمي الليبرالي بول دوجلاس. وسريعا ما شكل توماس مع دوجلاس "عصبة العمل السياسي المستقل". واتضح ان توماس يجذب اعدادا "محترمة " من الاصوات، بل ان عدد اعضاء الحزب تضاعف بفعل شعبية توماس وفي عام 1932 بفعل تأثيرات حالة الكساد الاقتصادي الكبير التي دخلت فيها الولاياتالمتحدة ابتداء من عام 1929 . ذروة توصف تلك الفترة من حياة الحزب الاشتراكي بانها "ذروة مرحلة اعادة الاحياء". وفي حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 1932 استطاع الحزب بجهود نورمان توماس ان يؤجج المشاعر في الجامعات الأمريكية بصورة لم يسبق لها مثيل حتي لتوصف هذه التاثيرات بانها "خلقت سياسات الحرم الجامعي". كما استطاع الحزب ان يصل الي جماهير عريضة علي الساحة الأمريكية من تنويعات سياسية واجتماعية مختلفة. كان الاعجاب بتوماس قد "قارب حدود عبادة الفرد" حسب تعبير المؤرخ الماركسي الأمريكي بول بوهلي، وهي حدود كانت قد نسيت تماما منذ ايام الزعيم المؤسس للحزب الاشتراكي يوجين ديبس. ويقول بوهلي ان النزعة العلمانية المتطرفة التي اتسمت بها حملة الحزب الشيوعي الأمريكي في ذلك الوقت اضرت الشيوعيين بينما ساعدت الحزب الاشتراكي كثيرا في تلك الحملة علي كسب مزيد من الاصوات، خاصة وقد كان شباب الحزب الاشتراكي ينشط في الجامعات وفي الاوساط العمالية. وقد تمكن الحزب الاشتراكي للمرة الاولي من ان يخلق له قواعد جماهيرية في ولايات الجنوب الأمريكي المعروفة بميولها المحافظة. مع ذلك فان عوامل اخري مؤثرة لعبت دورها في فوز الرئيس فرانكلين روزفلت بفترة رئاسة ثانية في انتخابات 1936 التي خاضها ايضا نورمان توماس. وكان من اهم هذه العوامل نجاح سياسة "الصفقة الجديدة" التي انتهجها روزفلت في مواجهة الكساد الاقتصادي الكبير والتي استعانت بافكار وصفها خصومه بانها اشتراكية او حتي اتهموه بالشيوعية بسببها. وكان من بينها توسيع قاعدة القطاع العام الاقتصادي والاخذ ببرنامج الضمان الاجتماعي. لذلك فقد فاز «توماس» بنحو نصف مليون صوت انتخابي في مواجهته مع «روزفلت» الديمقراطي، اي نصف الاصوات التي كان قد فاز بها في انتخابات 1932. وكان من نتيجة ذلك ان انسحب جماعيا من الحزب مجموعة الحرس القديم لتشكل اتحاد الديمقراطيين الاجتماعيين. ولتنضم بعد ذلك بوقت قصير الي حزب العمال الاشتراكي ولتؤيد روزفلت في الانتخابات. وكان موضع الاختلاف الاساسي بين توماس والحرس القديم صلابته الشديدة في معارضة دخول الولاياتالمتحدة الحرب العالمية الثانية، الامر الذي كان يؤيده روزفلت بشدة. لكن شعبية توماس لم تخب وظل احترام الجماهير له علي عمقه وقوته حتي اصبح يوصف في الصحافة الأمريكية علي اختلاف اتجاهاتها السياسية والاجتماعية بانه "ضمير أمريكا". ففي اثناء الحرب العالمية الثانية قاد حملة "من اجل العدالة للأمريكيين من اصل ياباني". وكانت ادارة روزفلت قد اعتقلتهم جماعيا في معسكرات منعزلة خشية ان يتجسسوا او يشاغبوا لحساب وطنهم الاصلي اليابان. ودافع توماس بكل قوته عن الحقوق المدنية للأمريكيين في ظروف الحرب. وقد اسس توماس في تلك الاثناء "اتحاد الحريات المدنية" الذي لا يزال بين انشط المنظمات الأمريكية حتي يومنا هذا في الدفاع عن الحريات المدنية للأمريكيين وحتي للمقيمين غير الشرعيين علي الاراضي الأمريكية. كما دافع عن حقوق المتقاعدين وعن ضرورة تعويض العمال عن اوقات البطالة. ولعب دورا مهما في الدفاع عن الافراد الذين يرفضون اداء الخدمة العسكرية بواعز من ضمائرهم. ولم يؤيد في اي مرحلة من نضاله السياسي شعار "الموت خير من ان اكون شيوعيا" حتي حينما كان قد كف عن خوض معارك الرئاسة التي خاضها ست مرات متوالية متجاوزا عدد المرات التي خاضها الزعيم المؤسس للحزب الاشتراكي يوجين ديبس، وهي اربع مرات. وتحول نحو تأييد مرشحي الحزب الديمقراطي في السنوات الاخيرة من حياته التي شهدت معارضته القوية ضد حرب فيتنام التي كانت تدور وقتها والتي اججت التأييد الطلابي بشكل خاص للاشتراكية. وقد توفي بعد اصابته بشلل بمجرد عودته من مظاهرة احتجاج القي فيها اخر خطبه ضد هذه الحرب. اشتراكية وحرية ولعل اهم ما ميز سنوات نضال نورمان توماس كزعيم للحزب الاشتراكي تمسكه بالمبادئ الاشتراكية دون التخلي عن مكاسب الديمقراطية الأمريكية كتجربة جديرة بالاحترام في مجال الحريات الفردية. وقد الف توماس عددا من الكتب لا تزال تصدر منها طبعات جديدة حتي وقتنا الحاضر. اهم هذه الكتب "طريق أمريكا للخروج من الازمة "(1930) - " الاستغلال البشري"(1934) - "عقيدة اشتركي "(1951) - "المنشقون العظام"(1961) - "اعادة تفحص الاشتراكية"(1963). ولا يمكن اختتام سيرة هذا الزعيم الاشتراكي الأمريكي دون التطرق الي حقيقة ان الزعيم الافروأمريكي الابرز في نضال حركة الحريات المدنية وحقوق الاقليات مارتن لوثر كينج - الذي عاصر نورمان توماس لسنوات طويلة - ترك قبل ان يسافر الي النرويج لتسلم جائزة نوبل للسلام رسالة مسجلة علي شريط موجهة الي توماس قال فيها: "انني لا استطيع ان افكر في انسان اخر فعل اكثر مما فعلت انت لالهام رؤيا مجتمع متحرر من الظلم والاستغلال لقد اضفي نضالك نبلا وكرامة علي النضال من اجل الحرية وكل ما نسمعه عن المجتمع العظيم يبدو مجرد صدي لبلاغتك".