عن سلسلة مكتبة الأسرة 2014 صدر لشيخ التربويين المصريين والعرب الدكتور حامد عمار كتاب مهم بعنوان : تعليم المستقبل من التسلط إلي التحرر، يتناول في فصوله وأبوابه أوضاع التعليم في مصر والتحديات التي تواجهها العملية التعليمية، واقتراحاته لانطلاق التعليم في مصر نحو المستقبل، وسوف نركز هنا في قراءتنا وعرضنا لفصول هذا الكتاب علي أهم ما تضمنه من أفكار وتوجهات رئيسية . يري الدكتور حامد عمار أن الأزمة الكبري التي تمخضت عنها العولمة والسوق الطليق في التعليم تتمثل فيما انتهت إليه من (تجارة التعليم ) بكل مخاطرها التربوية والاجتماعية، وتحول مؤسسات التعليم إلي مؤسسات تجارية يكاد يخلو مضمونها من أي أهداف ومقاصد تربوية وطنية أخلاقية وإنسانية حقيقية راسخة، واتضح أن شعار التجويد والتميز دعوي غير صحيحة ولم تعد مجدية، ويتجلي ذلك في مقاومة الروابط العالمية ضد هذا، محذرة من مغبة الإمعان في التوجه نحو تجارة التعليم، وتجريده من وظيفته المجتمعية ليكون أداة للحرية والعدالة والانتماء الوطني والإنساني، مشيرا إلي هذه المخاطر في كل ما يظهر لدينا من مشروعات لإلغاء مجانية التعليم، وهذا يتطلب ضرورة مقاومتها من خلال تكوين جماعات وتحالفات من المجتمع المدني ومن السياسيين والنقابات ومن الخبراء التربويين، لتقف درعا مقاوما لأي انتقاص من حقوق الشعب في تعليم متميز للجميع، وتمثل هذه المقاومة أداة رئيسية بدونها سوف تتغول مطامع الرأسماليين المتوحشة في تجارة التعليم، وفي مزيد من التربح وتكوين الثروة، وهذا هو أول فصول الرؤية في التمكين لتعليم وطني مقاوم لمختلف مشروعات التوسع في التعليم الخاص والأجنبي . نحو عدالة شاملة في التعليم الجامعي: يري الكاتب أن لدينا سداسية منظومات التعليم الجامعي وما يؤدي إليه التفاوت في فرص هذا التعليم نتيجة تعدد بنياته وبيئاته، وما تقدم من مناهج ظاهرة وخفية وفي حجم ما تتقاضاه من مصروفات وفي أداته اللغوية والأجنبية، لأنه من عوامل التمايز بين نمط التعليم الرسمي وأنماط التعليم الخاص والأجنبي وكليات التميز يبرز عامل اللغة الأجنبية التي هي واسطة التعليم في المجموعة الأخيرة، بينما يقتصر التعليم الرسمي فيما عدا أقسام اللغات علي التعليم باللغة العربية، ومع تقديرنا وحرصنا علي تعلم العلوم باللغة العربية، لكن ضرورات التعايش مع متغيرات العولمة المعاصرة تفرض علي كل جامعي متعلم اكتساب مهارة لغة أو أكثر، لأن تملك مهارتها من أهم عوامل تميز خريجي الجامعات الخاصة والأجنبية بالنسبة لفرص العمل، سواء في الشركات المحلية أو العالمية، ولذلك لابد من وضع سقف لنمو أعداد الجامعات الخاصة والأجنبية بحيث تتكاثر بمعدلات محسوبة، مع ضيق فرص العمل بالسوق المحلي، وقد يأتي اليوم الذي يحتكر فيه خريجوها فرص العمل، ونحن لا ندعو إلي القضاء التام علي الاهتمام بالتوسع والتجويد للتعليم الحكومي ، وندعو لمزيد من الجامعات الأهلية غير الهادفة للربح وتعني بالأبحاث العلمية والتكنولوجية، أما ما يتصل بالموقع الأهم في قضية التميز والإبداع وإحداث نهضة فإنه يرتبط بالمقام الأول بإنشاء مؤسسة خاصة متفرغة لقضايا البحوث العلمية في نطاق الجامعات المصرية . تنمية القوة البشرية الجامعية: يشير الدكتور حامد عمار إلي ضرورة زيادة ساعات التعليم والتعلم اليومي إلي جانب زيادة العام الدراسي أسبوعين أو أكثر، وضرورة استمرار زيادة معدلات القيد في التعليم الجامعي من خريجي الثانوية العامة والتعليم الفني لتصل إلي 33% بدلا من 29% حاليا، وتخفيض عدد المقبولين في الدراسات العليا بحيث يقتصر علي الحاصلين علي تقدير جيد جدا من أجل الكفاءة العلمية والبحثية والمساهمة في رفع القدرات اللازمة لمشروعات التنمية الشاملة، والتوسع في إرسال البعثات للخارج، وإضافة درجة علمية بعد الأستاذية يطلق عليها درجة الأستاذية المتميزة حفزا للأساتذة لمواصلة عطائهم العلمي والبحثي، وضرورة التوقف عن اعتبار كتاب الأستاذ هو المصدر الوحيد في المعرفة وتشجيع الطلاب علي الاستعانة بمرجعين آخرين واعتبار هذه المراجع من مصادر الامتحان، مع ضرورة استطلاع رأي الطلاب في المقرر الدراسي كي يستعين به الأستاذ في تطوير المنهج الدراسي مستقبلا، وتعليم لغة أجنبية خلال سنوات الدراسة لدرجات الليسانس والبكالوريوس والماجستير والدكتوراه كلغة علمية ولغة ثقافية، بالإضافة إلي تنظيم الكليات والجامعات لمحاضرات عامة وندوات ثقافية واجتماعية وسياسية وتشجيع الطلاب علي تحرير مجلاتهم بما يدعم رسالة الجامعة في الارتقاء الفكري والوطني لطلابها ولمحيطها الجماهيري . الثانوية العامة وبعد استعراض المؤلف لنظم الثانوية العامة في السنوات الماضية ومع ما طرأ عليها من تعديلات، يضع ملاحظاته حول قانون الثانوية العامة رقم 20 لسنة 2012 ، حيث يري ضرورة الاقتصار علي تعليم لغة أجنبية واحدة في المرحلة الثانوية امتداداً لما بدأ به الطالب في المرحلة الابتدائية، سواء كانت الانجليزية أو الفرنسية أو الالمانية، ويدعو إلي استمرار تعلم الطالب هذه اللغة في الجامعة والدراسات العليا، ويقترح أن يكون الحصول علي درجة 85% من درجة السلوك والانتظام شرطا للتقدم للامتحان لأنها تضمن العدالة بين طلاب المدارس، بدلا من إضافة عشر درجات، لأن هنك مدارس ممكن أن تضيف هذه الدرجات لطلابها دون معايير رغبة منهم في حصول مدرستهم علي أعلي الدرجات، ولا يري ضرورة لإلغاء تحويل الطلاب من العلمي إلي الأدبي، لأن اختيار نوع التعليم حق من حقوق الطالب ولا يجب إجباره علي ما يريد أن يتعلمه، ويري ضرورة إضافة مواد المواطنة وحقوق الإنسان وتكنولوجيا المعلومات إلي المقررات الدراسية الرئيسية ويمتحن فيها الطلاب ولا تضاف للمجموع، ويتمني الكاتب إضافة بعض التعريفات بالدين المسيحي في مقررات التربية الدينية الاسلامية وكذلك بعض مقررات الدين الإسلامي إلي مقرر التربية الدينية المسيحية، وذلك لإيجاد مساحة من التواصل الاجتماعي والعيش المشترك بين الطلاب، ويري إضافة مادة من مواد الأنشطة الرياضية والفنية والموسيقية والمسرحية، بأن يتم فيها الامتحان كمادة نجاح ورسوب لا تضاف للمجموع لتشجيع ممارسة الأنشطة داخل المدارس، علي أن تضاف ثلاث درجات للمجموع الكلي للطالب علي التفوق في بطولات أو إبداعات سواء علي المستوي المحلي أو العالمي، ويري دكتور عمار إلغاء ما يسمي بمواد التربية المهنية من تكنولوجيا الصناعة والزراعة وإدارة الأعمال لأنها أثبتت عدم جدواها لأنه ليس هناك مجال لتوفير مطالب تعليم هذه المواد، مع ضرورة تطوير إمتحان الثانوية العامة بما يسمي أسئلة المقال، والتي تستدعي القدرة علي التفكير والتنظيم وسلامة التعبير لأنها تقضي علي الحفظ والتلقين، مطالبا بإطالة مدة التعليم لأنه يصل في معظم البلاد المتقدمة إلي ما بين 220 و250 يوما . أوضاع تعليمنا يقول الكاتب إن الشكوي من تردي أوضاع التعليم، يرددها من يحرصون علي نقدها إلي تدهور التعليم وحده، دون النظر إليه في سياق النظام كله ، وينسبون إليه مظاهر البطالة دون الالتفات إلي الخلل والفساد في سوق العمل، ومع ذلك لابد من الإقرار بأننا تأخرنا كثيرا في الوفاء بمطالب التعليم مقارنة ببعض الدول التي كانت مؤشرات تعليمها قريبة من مؤشراته لدينا مثل اليابان ودول أمريكا اللاتينية والدول الأسيوية في بداية القرن السابق، واستطاعت أن تقفز إلي تقدم هائل ، وذلك لأن مجتمعنا تعرض لتغيرات وتقلبات في نظمه السياسية والاقتصادية ، وتوقعه إعادة إنتاج ما تقتضيه تلك النظم السلطوية من تشكيل القوي البشرية دون إسهام في تطويرها أو تغييرها إلي تعليم ديمقراطي في مجتمع ديمقراطي، ويضيف الدكتور عمار أن من بين تلك الأسباب في تخلف مجتمعنا زيادة معدلات النمو السكاني التي لم يتمكن التعليم من تحمل أعبائها، ومهما كانت الأسباب السياسية والاقتصادية والسكانية فإن الواقع يواجهنا بتعليم متخلف في مؤشراته الكمية والنوعية، ونتابع هذه المستويات المنخفضة من الملتحقين في مراحل التعليم المختلفة فنجد أن نسبة الملتحقين برياض الأطفال ما بين 4 -5 سنوات لا تزيد علي 18% ، وفي المرحلة الأبتدائية بلغ معدل القيد من سن 6 :_11 سنة 94% أي أن 6% من هذه الفئة العمرية للأطفال لم تلتحق بالمدرسة، ويصل معدل القيد في المرحلة الاعدادية للفئة العمرية من 12 :_14 سنة 89% وتزداد نسبة التسرب، وهي الفئة التي يدفعها الفقرإلي الإستعانة بأبنائها للالتحاق بسوق العمل، وتبلغ نسبة التسرب إلي 5,4% وهي حالات الفقر المدقع، وتشير الأحصائيات إلي أن معدل القيد الصافي بالمرحلة الثانوية يصل إلي 65% من الفئة العمرية 15 -18 عاما، أما في التعليم الجامعي فإن معدلات القيد للفئة العمرية من 18 -21 عاما فلم تتجاوز 29% ، وبذلك تكون نسبة المقيدين في التعليم في مراحله المختلفة من أدني النسب علي مستوي العالم باستثناء القارة الأفريقية عدا دولة جنوب أفريقيا . ضرورة تغيير المناهج وطرق التدريس: ويري الدكتور حامد عمار أن وظيفة عملية التعليم ليست قائمة علي الحفظ وإجترار المعلومات، بل لابد أن تقوم علي إنطلاق العقل والتفكير وإعادة التفكير وصولا إلي ما نريده من تكوين متعلم ناقد منتج لمختلف صور الإبداع ، ولذلك لابد من تجديد حركة التطور في المنظومة التعليمية من خلال مصادر متعددة ،وبدلا من محاولة كل وزير أو رئيس جامعة أن يبدأ حسب رؤيته الخاصة يقترح تكوين مجلس قومي للتعليم يتولي وضع خريطة متكاملة للخطط والسياسات القومية، التي تلتزم بها خطط التعليم علي مدي أفق زمني محدد، وعلي هذا المجلس طرح هذه الخطط والقوانين للرأي العام للمناقشة والمشاركة وعلي الوزارة الالتزام بهذه الخطط . الحرية والحوار في مسيرة التعليم يقول الكاتب أن عمليات التعليم تعكس الصورة الكلية للنظام التسلطي المجتمعي من خلال عمليات الحفظ والتلقين في التعامل مع المعرفة، وعلي الطلاب حفظها واسترجاعها في الامتحان ، ويجب أن تحل مكان هذه العلاقة ما يسمي بالتعليم الحواري، حيث يتسع المجال لتقبل أي معرفة ومناقشتها من خلال الحوار بين المتعلم والمعلم ، علي أن يتم تدريب المعلمين علي احترام مناقشات الطلاب، لأن المنهج التسلطي الذي يحدث في الفصل يتكرر في الامتحان، سواء في المدارس أو الجامعات، لأن الامتحانات تتم بنوع من الأسئلة تكون الاجابة عنها إجابة واحدة مما هو في الكتاب ، وليس من حق الطالب إبدء رأيه وعرض وجهة نظرة (وهذا يكون انعكاساً للوضع السياسي في المجتمع ، حاكم متسلط وفكر واحد متسلط). تمويل التعليم ويقول الكاتب اذا كنا نسعى الى بناء المجتمع الديمقراطي، فلا شك في ان للتعليم دوره في تأسيس ذلك المجتمع، واذا كنا نسعي الي بناء مقومات مجتمع المعرفة علي اعتبار ان التعليم هو مشروع مصر القومي الأكبر وأنه مناط الأمن القومي، وان التنمية البشرية من خلاله هي أفضل استثمار وطني فإن ذلك يتطلب ان نخصص للتعليم 6 % علي الاقل من الناتج المحلي الاجمالي وربما يتطلب زيادة هذه النسبة مع عوامل التضخم لتصبح 7% من الناتج المحلي الاجمالي، وهذا ما قررته اليونسكو منذ عشر سنين كحد ادنى لميزانية التعليم في الدول النامية لكي تحدث حركة نهضوية في تعليمها . هذه هي أهم الأفكار التي طرحها الدكتور حامد عمار في كتابه الجديد تعليم المستقبل .. من التسلط إلى التحرر ، عرضناها هنا عسى أن تكون أداة فاعلة من أدوات تطوير العملية التعليمية وتطوير المجتمع المصري .