حتى لو كان الفنان "أشرف عبدالباقي" كممثل كوميدى قد قصد أن يقدم فقرة هزلية فى برنامجه تياترو يوم الجمعة الماضي، حين قال فى مشهد تمثيلى إن الإفريقيين هم من أكلة لحوم البشر، وأنهم يضعون قدورا كبيرة من الماء على النار ليطبخوا فيها الآدميين ثم يأكلوهم.. أقول إنه حتى لو كان يهزل فإن هزله هذا يقطر عنصرية وتعصبا قبيحا فضلا عن التزوير مما يستوجب الإدانة. قبل عشرة أيام وصف أحد متفرجى مباراة لكرة القدم فى مدينة أوروبية اللاعب البرازيلى الكبير مدافع نادى برشلونة "دانى الفيش" بأنه قرد يأكل الموز وألقى إليه بموزة فما كان من اللاعب إلا أن تلقى الموزة التى قذفه بها المتفرج العنصرى وأكلها، وقذف قشرتها فى اتجاهه، وتضامنا مع اللاعب أخذ لاعبون كبار وجمهور متزايد فى تقشير الموز وأكله تعبيرا عن رفضه للعنصرية وازدرائه لمن يمارسونها، وشجبه للفعل القبيح. وقد عانينا نحن شعوب البلدان المستعمرة الفقيرة ذات البشرة السوداء أو السمراء، كذلك عانت الشعوب ذات البشرة الصفراء فى آسيا من الاستعلاء الأوروبى والنزعة المركزية الأوروبية التى ارتبطت بالتوسع الاستعماري، واعتبرت أن ما أسمته "بالشرق" مسكون بأجناس أدنى من الجنس الأوروبى الذى لابد أن تنعقد له السيادة، وأن تتحول الأجناس الأخرى من السود والسمر والصفر إلى عبيد مع التوسع الاستعمارى فى القارات الثلاث آسيا وأفريقيا وأمريكا الجنوبية. وتحتفظ ذاكرة البشرية حتى يومنا هذا بتفاصيل مأساة التهجير القسرى للإفريقيين إلى القارة الأمريكية الجديدة لكى يستعبدهم ويمتلكهم أصحاب الأراضى الشاسعة حتى يعملوا فى الزراعة كأقنان "عبيد"، ويستنزف ملاك الأراضى جهودهم وطاقاتهم وإنسانيتهم ذاتها ويعاملونهم معاملة الحيوانات. ونشأت مع التوسع الاستعمارى فى القارات الثلاث مؤسسة الاستشراق الفكرية والأدبية الكبري، التى أخذ بعض كبار مفكريها وصغارهم يسوقون المبررات الفكرية والفلسفية لتأسيس دونية الشرق ورفعة الغرب، ولعبت هذه المؤسسة دورا محوريا مساندا للاستعمار كضرورة لترقية المتوحشين من أكلة لحوم البشر كما يصورهم الفنان "أشرف عبدالباقي"، ويفعل "أشرف" ذلك بعد أن قامت معاول الرؤية الثقافية النقدية التى تعاملت مع البشرية كوحدة واحدة رغم التنوع بهدم صرح الاستشراق الاستعمارى وفضح العنصرية، وساهم فى عملية الهدم هذه مفكرون أوروبيون وأمريكيون كبار وإن كانوا قلة. وفى هذا السياق لعب الكتاب التأسيسي للمفكر العربى الفلسطينى "إدوارد سعيد" "الاستشراق" دورا محوريا فى عملية الهدم هذه وأصبح منذ صدوره فى العام 1978 مرجعا عالميا أساسيا بعد أن جرت ترجمته إلى عشرات اللغات، ولا يزال الردود عليه تتوالى حتى يومنا هذا. كذلك جرى تقويض كل من العنصرية والاستشراق الاستعمارى نضاليا فى كل من الحركة الأمريكية المناهضة للعنصرية والتمييز التى أطلقها الأمريكى الأسود "مارتن لوثر كنج" فى ستينيات القرن الماضى وكان أن قتله العنصريون ليؤججوا الحركة التى عمت وتواصلت حتى سقوط قوانين التفرقة العنصرية وصولا إلى تقبل الأمريكيين لانتخاب رئيس من أصل إفريقى ومسلم هو "باراك أوباما". كذلك تضمنت حركة التحرر الوطنى التى اندلعت فى كل أنحاء المستعمرات وتنوعت الأفكار والآليات التى ألهمتها للكفاح ضد المستعمرين، وتوجت جنوب أفريقيا نضال هذه الحركة تحت قيادة أحد الأبطال الكبار لعصرنا هو "نلسون مانديلا" الذى ما إن خرج من السجن الذى حبسته فيه سياسة الفصل العنصرى الاستعمارية إلا وأنشأ ضمن إنجازاته العبقرية للتعايش بين كل الأقوام والأجناس لجنة الحقيقة والمصالحة ليؤسس جنوب إفريقيا الجديدة، بعد أن جرت محاكمة كل المتورطين فى جرائم الفصل العنصرى والمذابح ضد المحتجين، وقدم آخرون اعتذارات قوية وصريحة عن ممارساتهم ضد شعب جنوب إفريقيا الأسود. ويدلنا التاريخ والتحليل النزيه لأصل العنصرية والتمييز على تجذرهما فى المجتمع الطبقى الأبوى منذ نشأته، وغالبا ما تلازم نضال البشر ضد العنصرية والتمييز مع نضالهم ضد الاستغلال الطبقى للكادحين، ورفع هؤلاء الكادحون من كل الألوان والأجناس راية واحدة هى راية المساواة والعدالة والأخوة فى الإنسانية، وهى الراية التى رفعتها الحركة العالمية متنامية الاتساع ضد العولمة الرأسمالية وضد توحش رأس المال، ومن أجل عولمة جديدة تضم بين جناحيها كل شعوب العالم وكل الأجناس والأقوام والألوان وهو ما يستحيل إنجازه دون إسقاط الاستبداد والاستغلال الطبقى وتطهير الضمير الإنسانى من النزعة الذكورية أخت العنصرية والتى ترى فى النساء كائنات أدنى شأنهن شأن السود والملونين والفقراء. وتتجه الثقافة النقدية الإنسانية الجديدة – التى تغرس جذورهما العفية فى حركة الشعوب ونضالها المثابر من أجل السيطرة على مصيرها- لفضح كل الأسس الطبقية والعنصرية التى تراكمت على مر القرون منذ نشأة المجتمع الطبقى مستهدفة الإطاحة بها كلية فى سياق العملية الصراعية النضالية الدائرة على مستوى العالم كله من أجل حياة جديرة بالإنسان. لا يجوز لفنان قدير مثل "أشرف عبدالباقي" أن يجهل كل هذه الحقائق إذ أن المعرفة الحقة هى ضرورة للارتقاء بالفن.