المناضل الإفريقي والعالمي التاريخي نيلسون مانديلا رحل عن عمر ناهز 95 عاماً قضى معظمها في حياة نضالية زاخرة بالتضحيات والآمال التي حلم أبناء جنوب إفريقيا في ظل نظام الفصل العنصر "الأبارتهايد" بتحقيقها، وباتت حقيقة بفضل نضالات الأفارقة السلمية التي جابهت نهجاً غير إنساني، اعتمد نظريات فوقية عنصرية، وقام على التمييز على أساس العرق ولون البشرة . مانديلا، ذاك الإنسان العالمي الذي افتتن كثيرون بنضالاته، مثله مثل المناضل التاريخي الهندي المهاتما غاندي، وكلاهما حارب الاستعمار الإمبريالي في وطنه، وقاوم عنصريته وفوقيته، واستعباده للإنسانية تحت أكثر من مسمى، رحل الرجل المتمسك بعدالة وإنسانية قضيته بعد أكثر من عقدين على تحقيقه الإنجاز التاريخي المتمثل في استعادة وطنه والانتصار لإنسانية إفريقيا أمام عنصرية المستعمر الغربي، وتحقيق العدالة لآلاف الأسر التي لحق بها الظلم . في تجربة مانديلا كتب تكتب، وموسوعات تنوء بالتوثيق لمسيرة طويلة من النضال والكفاح الهادف إلى إعلاء قيمة الإنسان عموماً، والإفريقي خصوصاً، في العالم، وإعادة القيمة الإنسانية إلى موقعها المتقدم في السياسة الدولية، وفي بنية المؤسسات والمنظمات العالمية، والأهم من ذلك إسقاط قناع استعمار كولنيالي تلطى بشعارات حقوق الإنسان، ولا يزال، وهو من أكبر منتهكيها . العالم نعى على قلب رجل واحد المناضل التاريخي، ونكّست الأعلام في عشرات الأماكن، وأطلق العنان لعبارات النعي والرثاء، حتى من كبرى قوى الاستعمار السابقة، وقوى الهيمنة الحالية، الجميع نعوا مانديلا، حتى الكيان الغارق في جرائم العنصرية والضم والتوسع وبناء جدران الفصل، انبرى عبر رئيسه وكبير أدعيائه اسحق بيريز ليطلق العنان لعبارات الرثاء، حتى لا يعتبر خارجاً عن السياق الإنساني للواقعة . لم يفقد مانديلا على مدى عقود من النضال ضد نظام الفصل العنصري إيمانه بعدالة وإنسانية قضية شعبه، ولم يحد عن الخط الذي وضعه لمسيرته الحافلة بالعقبات وقضبان المعتقلات وتنكيل المستعمر التي لم تغير وجهته ولم تعطب بوصلته التي كانت ترشده إلى طريق واحد لا ثاني له، الانعتاق من نير الاستعمار، والانتصار لإنسانية إفريقيا وأهلها، ورغم أن هذا النضال كان موجهاً إلى نظام الفصل العنصري الاستعماري، إلا أن نجاحه أرخى بظلاله على القارة السمراء ككل، إذ أثبت أن فيها شعوباً حية، تشارك أشقاءها في العالم عناصر الإنسانية والتنوع والاختلاف، ولها قيمتها الحضارية والتاريخية، ولا تقل شأناً عن غيرها على قاعدة الإنسانية المتساوية . ورغم أن إفريقيا تغرق في صراعات جانبية منها القبلي ومنها الطائفي، ومنها السياسي، إلا أن هذه القارة الحية بأبنائها وقضاياها مقبلة يوماً ما على إرساء نموذج مستقر مبني على السلام والاحترام المتبادل مع الدول المحيطة والخارج . العالم ككل فقد مثالاً كبيراً في الإنسانية والنضال والإيمان بالحقوق، لكن المسيرة تستمر، والمتوقع أن تحتل إفريقيا ككل موقعها الطبيعي من العالم، وتضع إضافتها الفريدة على سجل الحضارة الإنسانية الذي لا يعترف إلا بإنسانية بني البشر، ولا يرى في بعضهم تميزاً على الآخرين .