المسيحيون مرة أخري تزامن - بالمصادفة - مؤتمر حوار الإخاء الإسلامي المسيحي الذي ناقش أبعاد مقررات السينودس لأجل الشرق والبلاد العربية الذي انعقد في الفاتيكان قبل أسابيع تزامن مع ندوة نظمتها جامعة «ليون» الثانية في فرنسا بعنوان «مسألة النقد في الفكر الإسلامي تصورات وممارسات» احتفالا بثلاثة مفكرين عقلانيين رحلوا عن عالمنا تباعا في عام 2010 هم المغربي «محمد عابد الجابري» والجزائري «محمد أركون» والمصري «نصر حامد أبوزيد»، وقد جمع النقد بين المفكرين الثلاثة كأساس لمشروع إعادة تأسيس ثقافي وفكري في العالمين العربي والإسلامي. ولقراءة تأويلية تفكيكية وجريئة للنص الديني وسياقاته الاجتماعية - الاقتصادية تتجلي الرابطة بين الحدثين في حقيقة أن ظاهرة هجرة المسيحيين من الشرق العربي هي ظاهرة مقلقة ومتكررة في كل من العراق وفلسطين ولبنان، وتنهض في أحد أسبابها علي النفوذ المتزايد للتطرف الإسلامي التكفيري المسلح والذي استهدف المسيحيين بدور عبادتهم وأشخاصهم وأعمالهم باعتبارهم «آخر» كافر في خاتمة المطاف. وأدي ذلك النفوذ إلي الخوف والعزلة في أوساط المسيحيين وقطع الوشائج بينهم وبين المواطنين المسلمين... وكما يقول بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس «هزيم» الذي افتتح مؤتمر سوريا: «نحن مسيحيي سوريا لا نخاف من الآخر لمجرد الاختلاف معه، نحن نسمع من بعيد كيف أن صراعات الجماعات تؤدي إلي أن يذبحوا بعضهم بعضا في الكنيسة والجامع». أما مفتي سوريا الدكتور أحمد بدرالدين حسون فيري «أننا نجتمع لنقول لا للدولة الدينية والطائفية، لا ليهودية فلسطين، ولا لأمريكا التي قسمت العراق طوائف والتي تريد أن تقسم السودان مسلمين ومسيحيين». وكانت رسالة السينودس الفاتيكاني التي انطلق منها مؤتمر سوريا تؤكد أن مسيحيي الشرق مواطنون حقيقيون ومخلصون في واجباتهم، ولهم حقوق المواطنية الطبيعية التي ينالونها بحرية، ولذلك يجب أن نعمل من أجل السلام الشامل والعادل في المنطقة، ويجب أن نوقف أيضا نزف الهجرة منه». وقال بطريرك السريان الأرثوذكسي «زكا عيواص» «إن التعصب الصهيوني أنتج صراعات عرقية ودينية، لذلك نحن نشجع ونطالب مسيحيي الشرق وخصوصا في فلسطين والعراق علي التشبث بأرضهم وعدم الهجرة منها فهذه أرضهم وجذورهم فيها عميقة لا يستطيع أحد اقتلاعها». ويحمل هذا التوجه الأساسي في المؤتمر وعيا ثاقبا بحقيقة الدور الاستعماري الذي تلعبه إسرائيل منذ نشأتها في المنطقة والذي أعلن عن نفسه بشكل سافر مؤخرا بمطالبتها للعرب والفلسطينيين بالاعتراف بها كدولة يهودية أي أن قوميتها المدعاة تتأسس علي الدين، وبالتالي يتحول كل السكان غير اليهود فيها إلي مواطنين من الدرجة الثانية، يجوز ممارسة التطهير العرقي ضدهم وترحيلهم، ولذا أصبح الترانسفير، أي الترحيل أحد مفردات الثقافة الإسرائيلية. فإذا كان مؤتمر سوريا قد فحص وحلل الوجه السياسي لقضية هجرة المسيحيين العرب فإن ندوة جامعة «ليون» غاصت عميقا في الجانب الفكري الفلسفي للقضية ضمنيا بالكشف عن الجذور الراسخة من ممارسات السلطات الدينية الاستبدادية التي تستر نفسها بالدين لتحقق أهدافا طبقية سياسية ودنيوية، وتلك نتيجة يقود إليها النقد العلمي الموضوعي والقراءة التأويلية الحداثية لكل من التاريخ الإسلامي والنص الديني، لتعميق الأسس الفلسفية والفكرية للممارسة السياسية وإضاءة العلاقات الوثيقة بينهما. وإذا كان «نصر حامد أبوزيد» هو الوحيد من بين هؤلاء المفكرين العقلانيين النقديين الثلاثة الذي بذل جهدا متواصلا للاقتراب من الجمهور العادي منتقلا من المجال الأكاديمي المعقد إلي المجال السياسي العام، إذا كان الأمر كذلك تبقي الحاجة ماسة إلي دور لوسائل الإعلام والثقافة والتعليم لتبسيط ونشر أفكار هؤلاء المفكرين وإدراجها في المناهج التعليمية في سياق أوسع هو إضاءة الجانب العقلاني الموضوعي من الثقافة العربية الإسلامية، هذا الجانب الذي جري عزله وتهميشه منذ نفي «ابن رشد» وإحراق كتبه وفرض شروط التحريم باسم الدين علي العقل والفكر الحر والمبادرات الإبداعية. إن انتشار مثل هذه الثقافة وطرق التفكير هو الكفيل وحده بمواجهة الظلامية والتعصب عبر الاعتراف بالمنبع الواحد لكل الديانات الإبراهيمية وكما وصفها «محمد أركون» بأنهم أمة أهل الكتاب، ثم اكتساب القدرة علي تحليل وفضح الأسس الاقتصادية - السياسية التي تنهض عليها ممارسات التمييز الديني الذي دفع بالمسيحيين إلي الهجرة، وسوف يظل يدفع بهم إليها بل إلي مزيد من صراعات بين السنة والشيعة.. إلخ إذا لم تتغير الأفكار وتتحول إلي قوة مادية لتغيير الواقع البائس المتخلف الذي نعيشه.