أجمع دارسو جماعة الإخوان المسلمين كافة على حقيقة الفقر المعرفي كقاسم مشترك بين كل مرشدي الجماعة أنفسهم؛ فما بالك بحال أعضائها.كما وقف بعض هؤلاء الدارسين على حقيقة محورية أخرى_أشد خطراً من سابقتها_و هي أن أيديولوجيا الجماعة_ولا أٌقول فكرها_إنما هي من نتاج عقول خاوية ونفوس مريضة_يعجز علم النفس الباثولوجي عن علاجها_فضلاً عن خيال جامح لا يتمخض إلا عن تصورات"طوبية"لا سبيل إلى تحقيقها على أرض الواقع. حسبنا على ذلك دليلاً؛أن أجيال الجماعة لم تفرز طوال نيف وثمانين عاماً مفكراً أو أديباً أو فناناً مرموقاً..!! حسبنا أيضاً الإشارة إلى ما أوردناه_في المقال السابق_عن مؤسس الجماعة بأنه لم يخلف سوى كتاب يتيم يتضمن حشداً من الأوامر والنواهي التي تتعلق بالجانب التنظيمي والحركي ليس إلا.إذ أثر عنه حين سأله أحد أعضاء الجماعة عن سبب عزوفه عن التأليف في الإسلام_عقيدة وشريعة وتاريخاً وحضارة_كان جوابه:"إن كسب فرد واحد للانضمام إلى الجماعة أفضل من تأليف عشرين كتاباً"..!! .و الأنكى؛أن ما كتبه من مقالات ومنشورات..و نحوها؛اقتبس ما تضمنته من أفكار من منظومة أستاذه رشيد رضا الهشة التلفيقية المتناقضة؛كما أوضحنا في المقال السابق. مشارب فكرية ما يعنينا_في هذا المقال_هو إثبات نفس الحقائق بصدد عرض هواجس سيد قطب_المنظر الأعظم للإرهاب_ليس فقط بالنسبة لأعضاء الجماعة في مصر والعالم العربي؛بل للإرهاب"الإسلاموي"؛على صعيد العالم بأسره؛و إلى الآن. يباهي"القطبيون"المعاصرون بأن إمامهم المزعوم"جمع فأوعى"ناهلاً من مشارب فكرية وأدبية معددة ومتنوعة.و عندنا أن مؤلفاته في هذا الصدد كانت سابقة على انضمامه إلى الجماعة.و بالاطلاع على معظمها؛نرى أنها لا ترقي إلى مستوى نتاج مفكري وكتاب وأدباء ونقاد معاصريه الأفذاذ من الليبراليين والماركسيين وحتى الإسلاميين من أمثال الشيخ الغزالي والشيخ سيد سابق والأستاذ خالد محمد خالد وغيرهم.و في حقل النقد الأدبي؛لا يجوز مقارنته بعبقريات معاصريه؛من أمثال غنيمي هلال وعلى الراعي ومحمد مندور وأنور المعداوي.و قد أخبرني المرحوم نجيب محفوظ أن سيد قطب تفوق على هؤلاء وأولئك في سلاطة اللسان_إلى حد القذف أحياناً_خصوصاً حملاته على طه حسين وتوفيق الحكيم والشيخ على عبد الرازق.و لا يمكن تفسير ذلك إلى بعصابيته وطموحه الشديد الذي تجاوز قدراته وإمكاناته وملكاته المحدودة.بل ذهب البعض إلى أن دمامة ملامحه كانت من وراء تلك العصابية والتوتر النفسي والتقلب الذهني الذي تعاظم مواره بسبب إخفاق كل تجاربه العاطفية. أما وقد انضم إلى جماعة الإخوان على إثر قيام ثورة يوليو 1952؛فقد اتهم_ضمن قادتها بمحاولاتهم الفاشلة لاغتيال جمال عبد الناصر في "حادث المنشية"المعروف_و أودع السجن سنة 1954؛ثم أفرج عنه؛ليدخله عام 1965 وحكم عليه بالإعدام بتهمة التآمر للانقلاب على نظام الحكم. تأثير المودودى ما يعنينا_بصدد موضوعنا_أنه أنجز كتابه الشهير"معالم في الطريق"إبان سجنه؛ذلك الكتاب الذي يعد بمثابة"مانيفستو"الإرهاب في أبشع صوره وأشكاله.و قبل التعريف بمحتواه نقرر ما قرره جميع دارسيه من سطوة على فكر إبي الأعلى المودودي؛مضافاً إليه إسقاطات نفسه المضطربة_بل المريضة_بطبيعة الحال. فلنحاول برهنة هذا الحكم_بإيجاز_في الآتي: إذا كنا نعتمد حكم الكثيرين من الدارسين السابقين بصدد تأثير المودودي في سيد قطب؛فنحن نرى أن الفكر التكفيري الإرهابي يمثل تياراً تمتد جذوره إلى فقه الإمام أحمد بن حنبل.فقد عارض_إبان حياته_التيار العقلاني الذي دشنه المعتزلة وتبناه الخليفة المأمون حين جعل الاعتزال مذهب الدولة الرسمي.ونجم عن ذلك ازدهار حركة الترجمة عن الفارسية واليونانية والسنكريتية وغيرها,و كان ذلك من أهم أسباب ظهور العلم_الديني والدنيوي_و تدوينه في الإسلام,و ما ترتب على ذلك من ازدهار اقتصادي وتجانس اجتماعي استمر حتى نهاية العصر العباسي الأول. كان انتكاس تلك النهضة الشاملة وثيق الصلة بالتعصب الديني الذي أفضى إلى محنة المعتزلة,و ظهور التعصب المذهبي.و ما يعنينا أن ابن حنبل_مؤسس التيار السلفي_ناهض الاعتزال والأشعرية على السواء,و حرم العلوم الدنيوية وجرم المشتغلين بها معتبراً علوم الدين وحدها هي"العلم النافع".و لكم لاقى الكثيرون من العلماء والفقهاء من عنت وغوغائية الحنابلة في أسواق بغداد وشوارعها .و حسبنا الإشارة إلى أنهم رجموا دار الطبري بالحجارة وأفتوا بتحريم تشييع جنازته بعد موته .لقي هذا التيار دفعة كبرى على يد أبي حامد الغزالي "فقيه سلاطين السلاجقة"و منظر الاستبداد السياسي؛ وذلك حين حرم الثورة على الخلفاء حتى لو كانوا فاسقين,و أجاز حكم المتغلب على السلطة حتى لو كان جائراً,و أرغم الرعية على طاعته وحرم عليهم مجرد نصحه وإرشاده. الدولة النواة أما الفقيه"ابن تيمية"فلم يعترف بفقه مالك وأبي حنيفة والشافعي,و أغلق باب الاجتهاد على مصراعيه ممعناً في التنظير لما عرف باسم"الاتجاه السلفي"الذي نهلت منه جميع التيارات الإسلاموية المعاصرة وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين. وغني عن الذكر أن رواج تلك التيارات اقتصر على عصور انحطاط الفكر الإسلامي,و كان ذلك من أهم أسباب الفساد السياسي وتعرض العالم الإسلامي للغزو الأجنبي؛فضلاً عن الكساد الاقتصادي والتعصب العنصري,و الصراعات المذهبية.لذلك يمكن اعتبار فكر المودودي بمثابة امتداد لهذا التيار السلفي.و حسبنا أن فكره كان"فكر أزمة"؛إذ عانى مسلمو الهند ويلات الاضطهاد إلى حد الإبادة. بديهي أن يتأثر فكره بتلك المعطيات؛إذ مال إلى التطرف والتقوقع؛بما يقود إلى الإرهاب.لذلك لم يخطئ"جيمس بيسكاتوري"حين ذب إلى أن مشروع المودودي كان سياسياً بالأساس؛و إنه اتخذ من فهم خاطئ للإسلام غطاء أيديولوجياً؛بهدف تأسيس دولة إسلامية في الهند؛تكون بمثابة دولة نواة لإحياء"دار الإسلام"بعد"جهاد"كفار العالم بمن فيهم حكام الدول الإسلامية المعاصرة. لتحقيق هذا الحلم"الطوبوي"؛لا مناص من استلهام عصر حكومة الرسول(ص)و حكم الخلفاء الراشدين الأربعة.و في هذا الصدد إلتمس ما يلائم مشروعه السياسي من تراث العلوم الدينية؛أى تراث السلفية ليس إلا؛دون اعتبار لازدهار التراث العربي الإسلامي بعد عصر الخلفاء الراشدين,و على وجه التحديد خلال العصر العباسي. النموذج المختار لقد اعتبر المودودي جميع العصور اللاحقة لعصر الخلفاء الراشدين عصور"جاهلية"وجب على المسلمين المؤمنين بدعوته جهادها بعد تكوين ما أسماه"حزب الله"في مقابل"حزب الطاغوت".إذ اعتبر إسلام غير المنتمين لحزب الله"باطلاً". لقد أناط حزب الله بتكوين"حكومة إسلامية"على غرار نظام"خلافة الراشدين".و من هنا كان نموذجه المختار_القابل للتحقيق في نظره_يتمثل في مبدأ"الحاكمية"الذي يعني أن الخليفة هو"ظل الله على الأرض"؛يستند في تطبيق الشريعة الإسلامية إلى مبدأ"الجهاد"الذي لا يتوقف إلا بعد إحياء"دار الإسلام"على أنقاض"دار الحرب"الكافرة في الخارج. وإذ أناط الخليفة بكل السلطات والصلاحيات؛فيحمد له النص على أخذه ب"مبدأ الشورى"الذي قصره على"أهل الذكر",و اعتبر إجماعهم ملزماً للحاكم.يحمد له أيضاً قوله بوجوب الثورة على الخليفة ما لم يطبق"شرع الله"؛عندئذ"فلا سمع ولا طاعة له". أما عن موقفه من غير المسلمين في"دار الإسلام"؛فقد قنن له حسب ما ورد في القرآن والسنة, فضلاً عن اجتهادات السلف الصالح.و هنا يحمد له كذلك تعويله على فقه المصالح المرسلة ومقاصد الشريعة؛حيث قال بالإجماع والاستحسان والاستصلاح؛طالما كانت الشريعة تروم"إقرار العدل ونشر الخير". ويؤخذ عليه رفضه لمفاهيم الديمقراطية والنزعة الوطنية وفكرة القومية؛باعتبارها من إنتاج"الغرب الكافر".و في المقابل؛اقترح مفهوم"الأمة"أو"الجماعة"الذي يشترط وحدة الجنس ووحدة اللغة واللون والأهداف والمصالح…إلخ؛ضارباً صفحاً عن تعاليم الإسلام السمحة المناهضة للتمييز العرقي.و ربما نجم ذلك عن خصوصية التحديات التي واجهها المسلمون في الهند.و إذ رفض مذاهب الغرب في السياسة والاقتصاد والاجتماع البشري؛فقد وجد البديل لتحقيق العدالة في تطبيق شريعة الإسلام. تلك_باختصار_معالم المشروع الإسلامي في فكر أبي الأعلى المودودي؛ذلك المشروع الذي تلقفه سيد قطب ضارباً صفحاً عما تضمنه من بعض الإيجابيات.و تشبث بمقولاته السلبية عن"الجاهلية"و"الحاكمية"و"التكفير"و ما شابه,بعد أن أكسبها من لدنه مزيداً من التطرف والإرهاب.و هو ما سنفصله في المقال التالي.