إذ يقتضي الإنصاف أن يقيم المؤرخ آراء ورؤي مفكر ما حسب معطيات زمنه وطبيعة مجتمعه، وقيمة أفكاره للنهوض بهذا المجتمع؛ كان علينا أن نثمن فكر الإخوان المسلمين في إطار هذا المعيار العادل. صحيح أن كتابات كثيرة تصدت لتلك المهمة؛ يمكن اختزالها في جملة واحدة مفادها أن تلك الكتابات تدور في إطار «المدح أو القدح». المدح من جانب الإخوان أنفسهم، والقدح من لدن خصومهم بطبيعة الحال. وإذ سبق لنا إنجاز دراسات في هذا الصدد؛ فلا داعي لتكرارها في مقال مختصر؛ لكن الواجب يقتضي الإفادة منها؛ لا لشيء إلا لإثبات حتمية المراجعة والتجديد بهدف الترشيد بعد انتقال حركة الإخوان المسلمين من طور «الستر» إلي طور «الظهور»، أو بالأحري من موقف المعارضة إلي موقف السلطة، وما يقتضيه ذلك من تعديل في الأفكار والمفاهيم، أو تطوير، وربما التغيير. فالمعارض ليس مسئولا عن مواقفه وسلوكياته، إذ هو في حل من المساءلة والحساب. أما الحاكم، فهو مسئول أمام شعبه عن جدوي سياساته، والأهم عن اخطائه التي تودي بتلك الجدوي. هذا من ناحية، ومن أخري يختلف خطاب المعارض بالضرورة عن خطاب الحاكم، فالأول يتسم بالرومانسية والمثالية والوعد حتي بالمستحيل، حيث يصنع «يوتوبيا» خيالية يزعم قدرته علي تحويلها إلي «فردوس أرضي». فإذا ما وصل إلي الحكم، وواجه تحديات الواقع، تضيع وعوده الجوفاء في الهواء، خصوصا إذا كان لا يمتلك مشروعا مدروسا وقابلا للتحقق والتطبيق . عندئذ لا يملك إلا التبرير والكذب وإطلاق المزيد من الوعود المستقبلية الوردية، وهنا يقع في «ورطة» إزاء شعبه قد تفضي إلي إشهار إفلاسه، بعد فوات الأوان. ذلك ما وقع بالفعل بالنسبة للإخوان. قد يري البعض- من قبيل التبرير- أن مشكلات مصر أكثر تعقيدا مما يتصور، فلنعطي الفرصة والوقت للحاكم، خصوصا أنه لم يكتسب بعد الخبرة السياسية، فقد خرج توا من السجن ليتبوأ سدة الحكم. وتلك نظرة لا تخلو من وجاهة، لو أن الحاكم كان صادقا مع شعبه في تبيان تلك المشكلات، والأهم طرح برنامج دقيق وواضح لمعالجة تلك المشكلات، وفق مخطط زمني معقول. لكن ما حدث يثبت عكس هذا التصور، فخطب الرئيس أكثر من أن تحصي، ويستغرق بعضها ساعات طوال، وفي مناسبات غير مناسبة. ناهيك عن طابعها الخطابي الإنشائي الحافل بالمترادفات والعبارات الفضفاضة، دونما «طحن» يذكر. وعلي المستوي الفعلي تنصب الجهود لا علي البدء بالأوليات، بل علي تصفية الحسابات والأخذ بالثأر مع معظم مؤسسات الدولة تحت شعار استئصال شأفة الفساد، والواقع أنها تستهدف الهيمنة علي تلك المؤسسات، تطبيقا لسياسة «الأخونة» باعتبارها آلية أساسية لتنظيم الجماعة تعرف باسم «التمكين». تنصب مهمة هذا المقال في محاولة تفسير ما جري – ومايزال يجري- من خلال فكر الجماعة، سواء في حياة مؤسسها، أوفي مرحلة تنظيره الذي أطره المرحوم سيد قطب. يخطئ الكثيرون من نقاد الجماعة حين ينسبون إلي سيد قطب كل سلبيات أفكار الجماعة، ومن ثم يبرئون «الإمام الشهيد» من مغبتها. إذ الثابت أن معظم قسمات وملامح «الشخصانية الإخوانية- إن جاز التعبير- رسمها المؤسس صحيح أنه لم يخلف مؤلفات ضافية في هذا الصدد، باستثناء «مذكرات الدعوة والداعية». وعلينا أن نعترف بأن المرحوم حسن البنا لا يمتلك ما يمكن تسميته فكرا إسلاميا له نصاعته وتميزه، بحيث يضاف إلي مفكري السلفية. كما أن ثقافته لا تتعدي الأوليات العامة في التراث الإسلامي، خصوصا ما يتعلق بالبعد الأخلاقي، شأنه في ذلك شأن «الوعاظ» التقليديين. لكنه – والحق يقال- كان مربيا فاضلا لجيل من المصريين في زمن انحدرت إبانه الأخلاق من جراء مفاسد الاحتلال البريطاني، وفئة «أغنياء الحرب» المتعاملين معه. كما كان شخصية «كارزمية» ورعة وجذابة تأخذ بألباب سامعيه. أما عن مواقفه السياسية- ولا أقول فكره السياسي- فكانت مؤسفة، إذ هادن «القصر»، فامتدح الملك فؤاد، وأسهم في الدعوة إلي خلافة ابنه فاروق كأمير للمؤمنين. كما حارب حزب «الوفد» صاحب الجماهيرية الطاغية، وقيل أنه تآمر علي اغتيال زعيمه «النحاس باشا» وانحاز إلي أحزاب الأقلية، أداة القصر وسلطة الاحتلال. ولا تغتفر له معاضدته «صدقي باشا» جلاد المصريين. وبرغم نفي منظري الجماعة المعاصرين ما ذكر عن تنظيم «الجهاز السري» الذي اغتال القاضي «الخازندار» و«النقراشي باشا»، فقد تأكد- بالوثائق- تورط المرحوم حسن البنا في هذا الصدد. وعندنا أن هذا الجهاز ظل موجودا في تنظيم الجماعة إلي الآن، حسب اعتراف بعض قياداتها. أما عن مفهومه للدولة، فهو مأخوذ عن استاذه «رشيد رضا» الذي لا يقيم وزنا للدولة الوطنية أو القومية العربية، بقدر الإيمان بنمط الخلافة الإسلامية. وعن الشريعة الإسلامية التي نادي بتطبيقها، لم يقدم سوي عبارات وشعارات فضفاضة تتجسد في شعار «الله غايتنا، الرسول زعيمنا، القرآن دستورنا، الموت في سبيل الله اسمي أمانينا». ومن المفارقة عدم أخذه بمبدأ «الشوري»، وهو عصب التصور الإسلامي للحكم، بل إنه فصل أحد قيادات الجماعة حين طالب بتطبيقه في نظام الجماعة، كما ندد بالشيخ «علي عبد الرازق» وكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، بما يؤكد إيمانه بمفهوم «الدولة الثيوقراطية». لقد كان يري في نفسه «الإمام»، فكان هو المربي والموجه والمرشد الموجه والشيخ الروحي والفقيه الشرعي». أما البعد الاجتماعي، فكان غائبا عن تفكيره، اللهم إلا الحض علي الأعمال الخيرية، والتكافل الاجتماعي ، وما شابه، ولم يؤثر عنه نقد أو انتقاص ظاهرة الإقطاع والفوارق الطبقية، كغيره من ساسة عصره، كما هو حال المرحوم «إبراهيم شكري» الذي نادي بالإصلاح الزراعي عن طريق تحديد الملكية، والدكتور محمد مندور الذي تزعم الاتجاه الراديكالي في حزب الوفد. وإذا كان له من ارهاصات ثورية، فقد تمثلت – للأسف- في التخلص من خصوم الجماعة، حسب المفاهيم «المكيافيللية». إذ أثر عنه قوله : «من خدع الحرب أن يضلل المسلم عدو الله بالكلام حتي يتمكن منه فيقتله». وعدو الله في – نظره- لا يتعدي خصوم الجماعة، تلك الأفكار «التائهة» هي ما نظره «سيد قطب» فيلسوف الجماعة وقطبها، ومعلوم أن انضمامه للجماعة جاء متأخرا. ويري البعض أنه ما انضم إليها إلا لتحقيق طموح شخصي. علي أن تطرف في تنظيره، إذا لم يجد مبدعا في هذا الصدد، بل اقتبس مقولاته عن «الجاهلية» و«الحاكمية» و«التكفيرية» من «أبي الأعلي المودودي» عازلا لها عن سياقها المجتمعي والتاريخي. كما يعزي تطرفه إلي ما عاناه في السجن، حيث كتب فيه كتابه «معالم في الطريق» الذي كفر فيه جميع المسلمين خارج جماعة الإخوان، فاعتبر العالم كله «دار كفر»، وجب غزوها وضمها إلي «دار الإسلام» قسرا!! وبرغم كونه أديبا، تنكر للأدب والفنون والموسيقي، وما شابه. وفي السياسة، قال بإحياء الخلافة مجردة من مبدأ الشوري، ويعد مسئولا عن تشكيل «شخصية» الفرد من الجماعة باكسابه «فضائل»- !!- الاستعلاء ، والقولبة في «نسخة واحدة»، فضلا عن آفات المناورة والكذب والإكراه، وما شابه . يقول في هذا الصدد : «ينبغي أن نخاطب الناس بالنظر إليهم من عل.. لأنهم غارقون في الوحل، لا سقين بالطين»!! أما عن فكره الاجتماعي، فلا وجود له، اللهم إلا تنديده بالاشتراكية باعتبارها بدعة من مستوردة من كفار الغرب. لذلك- وغيره كثير- حكم صديقنا المجتهد «جمال البنا»، بأن فكر سيد قطب «جرد العقيدة من مضمونها». وذكر الصديق «صلاح الدين الجورشي»- المفكر التونسي- بأنه «فخخ الفكر الإسلامي». ما يعنينا- من هذا العرض المبتسر- هو الجزم بأن تلك الأفكار الشريرة ما هي إلا وليدة نفوس مريضة، وعقول خاوية أساءت إلي الإسلام كعقيدة وشريعة وحضارة. والأهم؛ غزوها لعقول الشباب اللينة باعتبارها هي حقيقة الإسلام. والأنكي تجنيد هذا الشباب «الأخضر» في «حزب الله» لاستئصال شأفة «حزب الشيطان». ما يعنينا أخيرا، أن تلك الأفكار الهدامة واليوتوبية غدت حاليا «اديولوجية» قيادات جماعة الإخوان وحلفائهم من جماعات الإسلام السياسي التي احتضنتها عباءتهم، ليقودوا الوطن إلي طريق الهاوية. فهلا يراجع إسلامويو مصر الآن تلك الأفكار التي انعكست علي سلوكياتهم بعد تسلمهم السلطة؟