لم تعد قرارات واشنطن التجارية مجرد شأن داخلي بعدما فرض الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب الرسوم الجمركية الجديدة التي أعلنها في أغسطس/آب، والتي لم تقتصر آثارها على الصين وحدها، ولكنها قد تعيد رسم خريطة الاستثمار في آسيا والعالم. كشفت البيانات أن الدول المجاورة للولايات المتحدة هي التي تتلقى الصدمات الأشد وليست بكين وفقًا لمجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية ما يُثير تساؤلات عميقة حول مستقبل استراتيجية "الصين زائد واحد" التي تبنّتها كبريات الشركات العالمية لتقليل اعتمادها على الصين.. فما القصة؟ اقرأ أيضًا| هل يدفع الاقتصاد الأمريكي ثمن طفرة الذكاء الاصطناعي من جيبه الكهربائي؟ الرسوم الجديدة تقلّص الفجوة مع الصين الخطوة الأخيرة التي اتخذتها إدارة ترامب في 7 أغسطس أحدثت ارتباكًا كبيرًا، ورغم خطاباته النارية ضد بكين، فإن الرسوم الجمركية الجديدة جعلت الصين في موقع "أقل سوءًا" مقارنة بدول أخرى، بعدما تقلصت فجوة الرسوم الجمركية بينها وبين بقية العالم. وزاد الموقف تعقيدًا إعلان ترامب عن تشديد إجراءات مكافحة "إعادة الشحن"، في إشارة إلى السلع الصينية التي تُعاد تغليفها أو شحنها عبر دول ثالثة للوصول إلى السوق الأمريكية. ضربة لاستراتيجية "الصين زائد واحد"؟ منذ الحرب التجارية الأولى في عام 2018، استفادت دول آسيوية مثل فيتنام وتايلاند والهند من نزوح الاستثمارات بعيدًا عن الصين. فقد انتقلت مصانع الأحذية، وخطوط تجميع السيارات، وإلكترونيات المستهلك إلى هذه الأسواق كجزء من استراتيجية "الصين زائد واحد"، لكن الرسوم الجمركية الأخيرة قلّصت الفوارق الجمركية بين الصين وجيرانها، ما يثير مخاوف من تراجع جاذبية هذه الوجهات البديلة. لماذا ستستمر الاستراتيجية رغم التحديات؟ ورغم هذه التطورات، يرى خبراء أن الاستراتيجية لن تنهار، بل ستُعاد صياغتها. فالشركات لا تهرب فقط من الرسوم الجمركية، بل من ارتفاع أجور العمالة الصينية، والمخاطر السياسية، وضوابط التصدير الأمريكية. والأرقام تكشف أن الصورة ليست كما تبدو، فالرسوم المفروضة على الصين تشمل قطاعات واسعة مثل منتجات الفنتانيل، بينما الرسوم "التبادلية" على دول أخرى أضيق نطاقًا، ووفقًا لبيانات وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، فإن الفجوة الحقيقية في الرسوم الجمركية لم تتقلص بل اتسعت بين الصين ودول آسيوية أخرى. اقرأ أيضًا| ما بعد قمة ألاسكا| كيف سيؤثر فشل المفاوضات على صورة ترامب؟ ماليزيا تتقدم.. وكمبوديا وإندونيسيا تخسران الفائز الأبرز حتى الآن هو ماليزيا، التي قفز معدل الرسوم الفعلية المفروضة عليها من أقل من 1% إلى 12% فقط، ما أبقى فجوة التعريفات بينها وبين الصين عند مستوى كبير (من 10 نقاط إلى 30 نقطة مئوية)، في المقابل، لم تحقق دول مثل كمبوديا وإندونيسيا مكاسب تُذكر، ما يحد من قدرتها على جذب استثمارات جديدة. وحول سؤال، «من يستهدف ترامب في معركة "إعادة الشحن"؟»، لم تُحدد أمريكا بعد كيفية تطبيق حملتها على الشحنات العابرة، لكن التقديرات تشير إلى أن البضائع الصينية التي تُمرر عبر دول ثالثة ستكون الهدف الأول. وبناءً على تحليلات لبيانات الجمارك، فإن الهند وتايلاند وفيتنام كانت أكثر الدول نشاطًا في هذه الممارسات، أما كمبوديا وإندونيسيا وماليزيا، فيُرجح أن تكون أقل عرضة للعقوبات. خيارات بديلة.. أسواق جديدة خارج أمريكا في حال اشتدت القيود الأمريكية، ستسعى دول آسيوية إلى توجيه صادراتها لأسواق أخرى، غير أن فيتناموكمبوديا تواجهان وضعًا هشًا لاعتمادهما الكبير على السوق الأمريكية (ثلث صادراتهما)، بينما تتمتع دول مثل الهند وإندونيسيا وماليزيا بمرونة أكبر، إذ لا تستوعب الولاياتالمتحدة سوى أقل من 20% من صادراتها. فعلى سبيل المثال، تتجه 40% من صادرات إندونيسيا إلى أسواق مثل أسترالياوالصين وأوروبا واليابان، بينما لا يذهب إلى أمريكا سوى 10% فقط. وفي ظل هذه التحولات، برزت ماليزيا كوجهة استثمارية واعدة، ويقول داتوك سيري وونج سيو هاي من جمعية أشباه الموصلات الماليزية: "إن هذه الظروف تُبرز ماليزيا كوجهة مفضلة للمستثمرين"، وحتى خارج آسيا، تستفيد دول أخرى مثل المجر، التي تُعد بوابة للصين إلى أوروبا، حيث تقل الرسوم الجمركية المفروضة عليها بنسبة 30% عن تلك المفروضة على الصين. مخاطر «النجاح المفرط» لكن النجاح لا يخلو من مخاطر، فزيادة اعتماد ماليزيا على السوق الأمريكية قد يجعلها عرضة للاستهداف مُستقبلًا، كما حدث سابقًا عندما رفعت صادراتها إلى أمريكا من 9% إلى 13% عقب الحرب التجارية الأولى، حينها وجّهت إدارة الرئيس الأمريكي (السابق) جو بايدن، اتهامات لصناعة الألواح الشمسية الماليزية بأنها تساعد على الالتفاف على الرسوم الصينية، ومع استمرار استراتيجية "الصين زائد واحد"، سيبقى حتى "الفائزون" غير مُحصنين. ليتضح أن الحرب التجارية لم تعد مُجرد مُواجهة بين أمريكاوالصين، حيث إنها أصبحت مُعادلة عالمية مُعقدة تُعيد توزيع الاستثمارات والفرص بين دول آسيا وأوروبا بأكملها، وبينما تُظهر ماليزيا مرونة وتحقق مكاسب واضحة، يظل شبح الرسوم الجمركية والعقوبات حاضرًا.. ليُؤكد أن «أي فائز اليوم قد يكون خاسر الغد».