بعد ثلاثين عاما من السجن والصمت.. تم الإفراج عن السجين.. وخرج من الظلام إلى نور الحرية بدون أن يعرف لماذا تم اعتقاله.. ولماذا يفرج عنه؟ ومن هو؟ وأين أولاده الذين كانوا صغارا جدا.. وما هو اسمه.. لقد أعطته ملفات السجن اسم "مجهول".. وهو بداخلها.. وحمله معه وهو خارج منه.. وبهذه البداية يتعقب المخرج المغربى هشام العسرى بطله فى رحلة العودة من خلال فيلم "هُم الكلاب" الفائز بجائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مسابقة المهر للأفلام العربية الروائية الطويلة بمهرجان دبي.. وأيضا حصل بطله الممثل "حسن ياديدة" على جائزة أفضل تمثيل رجال فى فيلم اتكأ على أدائه فلم يخذل فريق العمل بداية من المنتج نبيل عيوش فنان السينما المغربية الكبير مؤلفا ومخرجا، إلى مخرج الفيلم ومؤلفه أيضا هشام العسري.. ومصوره على بنجلون، والمونتيرة صفاء بركة.. فبدون موهبة واقتدار بطل الفيلم كان من الصعب أن يصل جهد الجميع إلى هذه النتيجة التى تعبر ليس عن صورة ووضع قاس ضد كل حقوق الإنسان فى المغرب وحدها، ولكن فى أغلب بلاد العالم العربى حيث يطال الاعتقال والسجن أبرياء كثيرون يقضون مددا طويلة تقطع صلتهم بالحياة والأسرة والعالم.. وتحولهم إلى موتى وهم أحياء.. والفيلم ينشغل برحلة بطله من "العدم" إلى "الوجود" التى يبدأها بالرجاء والأمل فى أن يرى النور ودفء الأسرة، غير أن الأوراق التى لم توجد بحوزته تواطأت مع الذاكرة المعطلة لسنوات طويلة لكى تجعل رحلة خروجه عذابا وكأنه موت جديد بعد موت السجن.. يكتشف "مجهول" فى الشارع تغييرات وتجمعات ويسأل فيعرف أن الثورة قامت فى تونس المجاورة للمغرب، وفى مصر وأن العالم الهادئ المستقر الذى عرفه قبل السجن لم يعد كذلك، فى ارتباكه لما يحدث فى الشارع تقتحمه كاميرات برنامج تليفزيونى تبحث عن قصة.. فوجدتها فى هذا المجهول الباحث عن أي صلة تعيده لحياته الماضية. الكاميرا.. وصراع الماضى والحاضر تتابع كاميرا التليفزيون البطل وهو يتذكر شيئا من ملامح الشوارع التى كان يعيش فيها، ليتحول المشهد إلى فيلم داخل الفيلم، وليتحول "مجهول" إلى هدية ثمينة لفريق العمل التليفزيونى الذى يبحث عن الإثارة فى هذه القصة فيطارده وهو يدق الأبواب يسأل عن الأصحاب، فيجدهم قد رحلوا إلى السماء أو تركوا الموقع، وتتابع الكاميرا بطلنا وهو يقع فى يد امرأة تبيع الهوى ظنته زبونا قبل أن تلفظه بعد إدراكها لمأساته، وفى الشارع تتعرض كاميرا التليفزيون للسرقة من لص يجرى بها قبل أن تقع منه ويتحول المشهد إلى لقطات عبثية وفقا للعدسة التى لامست الأرض.. وأخيرا يصل السجين السابق إلى من يدله على بيت أسرته الجديد لتواجهه امرأة عجوز قاسية هى زوجته وبخبرته أنها تبرأت منه هى وأبناؤها، فهو لم يعد الزوج ولا الأب بعد أن رحل وتركهم، وحين يحاول إثارة شفقتها على حاله تؤكد له أن من يعرض نفسه للهلاك بالسير فى "هبة الخبز" يستحق هذا لتوقظ كلماتها الذاكرة ويستعيد ما حدث عام 1981 فى المغرب فيما سمى بانتفاضة الخبز التى كانت تطالب بالإصلاح والتغيير، وكان بطلنا قد خرج ليصلح عجلة ابنه الصغير أثناء مرور المظاهرات فذهب مع من ذهبوا إلى السجون حين قمعها البوليس، وهناك قضى ثلاثين عاما يدفع ثمن ذنب لم يرتكبه، وترك أطفالا رباهم رجل آخر ورحل، وحين يقابل الرجل ابنه الأكبر فى نهاية الفيلم فإنه يواجهه بأنه لا يعرفه ولا يريد أن يعرفه فلم يفعل له شيئا فى حياته، حتى مجرد التواجد.. لينتهى الفيلم بالبطل منسحبا، عائدا إلى حيث لا مكان فى ربوع مدينة كان يعرفها فى الماضي.. وزمن كان يرافقه.. والآن لم يعد لهما من معني.. لا المدينة ولا الزمن.. وبدلا من النهايات الميلودرامية المعتادة، فإن "هم الكلاب" ينتهى بوفاة ملك المغرب السابق الحسن الثاني.. تاركا للمشاهد مساحة للتأمل والتفكير فى القصة كلها.