رداً علي المفتي جانب الصواب فضيلة الدكتور «علي جمعة» مفتي الديار المصرية حين قال في جريدة «الوفد» يوم الجمعة الماضي إن الثقافة العامة تتعرض لهجمة علمانية.. وأن العلمانية لا تنكر الدين، لكنها تنحي الدين عن سير الحياة، وقارن بين العلمانية والسلفية المتشددة التي تريد بدورها أن تنعزل بالدين عن سير الحياة. وهكذا قدم المفتي تفسيرا للعلمانية أبعد ما يكون عنها لأن ما تطالب به ليس فصل الدين عن الحياة فمثل هذا الفصل مستحيل لأن الدين هو أحد مصادر القيم في العالم أجمع ولكن شرطها الأساسي ومطلبها هو فصل الدين عن السياسة وعن الدولة، لتصبح الدولة محايدة بين الديانات كافة ترعي حقوق معتنقيها وتوفر لهم المناخ الملائم وحقهم في دور العبادة التي تحميها، ولكنها لا تنحاز لدين ضد الآخر فهي تتأسس علي مبدأ المواطنة، والمواطن هو الذي يؤدي ما عليه من واجبات تقابلها حقوق يتمتع بها بصرف النظر عن الدين أو الجنس أو الطبقة. وحين ترفض العلمانية فكرة الدولة الدينية فإنها لا تعادي الدين، وإنما ترفض أن يصبح الدين هو العامل الحاسم في تحديد هوية الدولة أو طابعها، لأن الدولة العصرية هي دولة كل المواطنين لا دولة المؤمنين فقط، وهي دولة المواطنين سواء كانوا متدينين أو غير متدينين، وهي أيضا دولة النساء والرجال علي قدم المساواة. وكما أن هناك علمانية ملحدة، هناك علمانية مؤمنة وهي الأكثر شيوعا في العالم كله. وقد كتب الإمام «محمد عبده» في أواخر القرن التاسع عشر يقول: «ليس في الإسلام سلطة دينية سوي سلطة الموعظة الحسنة، وأن أصلا من أصول الإسلام قلب السلطة الدينية والإتيان عليها من أساسها، وأن الحكم مدني من جميع الوجوه»، كذلك كان الشيخ «علي عبدالرازق» في كتابه «الإسلام وأصول الحكم» الذي صدر سنة 1925 قد فند ونفي أن يكون الإسلام قد دعا لنظام الحكم، بل إن دولة الخلافة كانت دولة مدنية من كل الوجوه. ويري علمانيون ثقاة أن هناك أسسا قوية للعلمانية لا فحسب في تراث الفلسفة العربية الإسلامية، وإنما أيضا في خبرة الدولة الإسلامية نفسها خاصة في تجربة الأندلس، بل في خبرة أكبر بلد في العالم به سكان مسلمون الآن وهي أندونيسيا التي رفض قادتها النص علي دين للدولة في دستورها، وذلك دون أن يفقد هذا البلد الكبير هويته القائمة علي التنوع، ودون أن تشعر الأغلبية المسلمة فيه أن حقوقها مهدرة. وما يخيف فضيلة المفتي حقيقة هو أن موجات العلمانية تكتسح المجمعات الإسلامية، وأن التغيير العميق في هذه المجتمعات يشق طريقه كحقيقة موضوعية في اتجاه العلمانية التي يستحيل وقفها، رغم أننا نحن العرب والمسلمين مازلنا نتلكأ في إنجاز إصلاح جذري للفكر الديني علي أساس من الثراء الهائل في التراث المنتج من عصور ازدهار الثقافة العربية الإسلامية جنبا إلي جنب أدوات عصرنا ومعارفه، الشيء الذي لابد أن تسهم فيه المؤسسات الدينية الكبري سواء الأزهر أو دار الإفتاد بدلا من أن تتحول إلي عناصر تعطيل لهذا الإصلاح الضروري. ولا أعرف من أين جاء فضيلة المفتي بأن «العلمانية تؤمن بالخصوصية التي تدعو فيها لتأييد انفصال الأكراد والتركمان والعرب والشيعة من السنة والأقباط من المسلمين، العلمانية تريد هذا، ولذلك تريد خريطة أخري للعالم وبدلا من 200 دولة تصبح 400 دولة». والحق أن هذا بعيد تماما عن الواقع ومنطق غريب تماما علي المكون الفكري الرئيس للعلمانية وهو مبدأ المواطنة وفصل الدين عن السياسة حتي لا يختلط المقدس بالدنيوي وحتي يتعايش الجميع رغم اختلافاتهم في إطار الوطن الواحد وحيث الوجه الآخر للعلمانية في التطبيق حتي تتكامل أركانها هو الديمقراطية، والتي في غيابها تبرز دعوات الانفصال والصراعات الدينية والمذهبية. وإذا احتكمنا إلي الواقع العملي سوف نجد أن أكبر ديمقراطية في العالم أي الهند هي دولة علمانية قائمة علي التنوع الهائل بين هندوس ومسلمين ومسيحيين ويهود وبها ما يزيد علي 25 لغة، وقد حمتها العلمانية والديمقراطية من التفكك والتفتيت، في حين تبرز دعوات الانفصال في البلدان التي تسيطر علي الحكم فيها جماعات استبدادية تحكم باسم الدين مثلما هو الحال في السودان والصومال وغيرها. تحتاج العلمانية إلي نظرة منصفة من قبل المؤسسات الدينية حتي تزيل الخصومة الزائفة بينها وبين الدين لينفتح الباب أمام التطور الديمقراطي السلمي والصحي.