المتتبع لمجريات الأحداث والتصريحات الوفدية، يدرك تماما أن الدكتور السيد البدوي رئيس الوفد يعلن تأييد الحزب للمادة الثانية من الدستور بنصها الساداتي. وأقول لسيادته إن أول دستور لنا، دستور 1882 (اللائحة الوطنية)، لم يذكر الدين -أي دين- من قريب أو من بعيد.. ولم يتحدث عن دين رسمي وأديان غير رسمية وهو الدستور الوحيد ضمن دساتير مصر "السبعة" الذي وضع من خلال جمعية تأسيسية منتخبة. أما دستور 23 الذي أرخ لهذه البدعة التي حرضت كل الدساتير بعده علي التأكيد عليها. كما نقلت دساتير 19 دولة عربية نفس النص فقد نعت سعد باشا زغلول أعضاء لجنة وضعه ب(الأشقياء) . أندونيسيا هي أكبر دولة بها مسلمين ومع ذلك لا ينص دستورها علي أن الإسلام هو الدين الرسمي ولكن يقول (أندونيسيا دولة تؤمن بأن الإله الواحد) توسعه لاستيعاب أكبر عدد من المواطنين تحت عباءة الدستور ومع ذلك يشعر المواطن غير الموحد في سأندونيسيا أنه خارج الدستور ونطاقه. فالدولة الوطنية الجامعة لا يجب أن يتضمن دستورها ديناً رسمياً كما لا يجب أن يتضمن دستورها عقيدة اقتصادية. اشتراكية كانت أو رأسمالية. وإلا فماذا عن وضع المخالفين (خارجين علي الدستور طبعاً). الموقف الحقوقي من المادة الثانية إذا كان الدستور الحالي يتحدث عن دين رسمي للدولة. فهذا معناه الآتي : - إن هناك أديانًا أخري يدين بها المواطنون لكنها غير رسمية وغير معترف بها. - أن دستور الوطن يفرق ويميز ويصنف أبناء الوطن الواحد حسب عقيدتهم الدينية. - إن الدولة ولية علي الإسلام الأصلي الصحيح - أن من لا يدين بدين الدولة خارجاً عنها. - إعلان رسمي للطائفية الرسمية للدولة. - عدم اعتراف الدولة باختلاف الفهم داخل الدين الإسلامي وإعطاء الفهم الرسمي للدولة قداسة النص الإلهي واعتبار فهمها أصلاً مثل الأصل الإلهي المقدس معناه أننا في دولة أصولية. - عدم التزام مصر بتعهداتها الدولية. - حسب د. سيد القمني(الدين الرسمي والإسلام الأصلي). - أما د. إبراهيم شحاتة في وصيته لبلاده ص 278 فيري أنه (لا معني لعبارة الإسلام دين الدولة. فالدولة شخص اعتباري وليس شخصاً طبيعياً ينتظر منه أن يفعل ما ينتظر من الشخص الطبيعي الذي يدين بدين الإسلام من النطق بالشهادتين وإقامة الصلاة. وإيتاء الزكاة. وصوم رمضان. وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلا. واللفظ فضلاً عن مجازيته فإنه يسير اللبس ويترتب عليه نتائج قانونية غير متفق عليها). علمانية سعد زغلول سعد باشا صوناً لوحدتنا الوطنية وتأسيساً للدولة الوطنية اختزل العلمانية في عبارته الشهيرة (الدين لله...والوطن للجميع) وفسرها الدكتور محمد سليم العوا رئيس المجلس الإسلامي العالمي بأن الزعيم الأزهري بالأساس اختار الشعار من القرآن الكريم من آيتين : - (ألا لله الدين الخالص) (سورة الزمر آية 3) ( الدين لله). - (والأرض جعلها للأنام) (سورة الرحمن آية 10) (الوطن للجميع). -راجع إبراهيم عيسي كتاب الحرية في سبيل الله. والمبدأ العلماني الأول: حياد الدولة تجاه الشأن الديني لمواطنيها نجحت ثورة 19 في تحقيقه فكانت الوحدة الوطنية هي أهم الثمار التي أرخت لبناء الدولة الوطنية وحافظت علي الوطن في مواجهة المحتلين. والمبدأ العلماني الثاني: حياد المدرسة الحكومية تجاه الشأن الديني للطلاب. فلم تعرف المدرسة الحكومية المصرية قبل العام 52 (راجعوا المقررات الدينية) أية دعاية مضادة للمسيحيين أو اليهود (فرق بين الديانة اليهودية والحركة الصهيونية). والإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية عندما صاغ برنامج أول حزب سياسي مصري (الحزب الوطني). أكد أنه (حزب يضم جميع المصريين المسلمين منهم والأقباط واليهود). (راجع مبدأ المواطنة د. وليم سليمان قلادة). والمبدأ العلماني الثالث : حماية حرية الضمير والاعتقاد فلقد نصت معظم دساتير مصر عليه حتي دستور 71 وهو مبدأ له أصل في الدين الإسلامي.(من شاء فليؤمن ..ومن شاء فليكفر). (لا إكراه في الدين ) وهي الآية التي فسرها الإمام محمد عبده (من شاء أن يدخل دخل ومن شاء أن يخرج منه فليخرج) والتي تؤسس لحرية الاعتقاد في الإسلام (راجع تفسير المنار). - والدولة العلمانية دولة لا تفتش في القلوب والضمائر ولا تحاسب علي المشاعر والأفكار وإنما تحاسب علي الأفعال إن هي خالفت القوانين وتفرق بين الخطيئة والجريمة. - وحسب موريس باربيه المفكر الفرنسي المعروف أن هناك 4 أنواع من الدول: - دينية. يحكمها الدين ويقودها. - طائفية.. تدعم دين بعينه وتنحاز له. - علمانية.. لا تتدخل في الشأن الديني. - إلحادية... تلتزم بمكافحة الدين وتناهضه ولقد انتهت تلك الدولة بنهاية الاتحاد السوفيتي السابق. - والعلمانية ليست أيديولوجية وإنما هي مجرد آلية توحيد ومساواة بين المختلفين دينياً من أجل التعايش وبناء الوطن. ومن أجل تنظيم المجتمعات وحتي لا تسحق أي فئة أو جماعة أي فئة أو جماعة أخري (حسب د. رجاء بن سلامة). - بل إنها-حسب المفكر الكبير جورج طرابيشي- ركيزة قانونية لتسوية العلاقات لا بين الأديان المختلفة فحسب بل بين الطوائف المختلفة داخل الدين الواحد. - العلمانية تمنع التوسل بالمسجد أو بالكنيسة لتحقيق أغراض سياسية وتمنع خداع البسطاء وسرقة أصواتهم والسطو علي إرادتهم باسم حبهم للدين. لذلك فهي عند من يتوسلون بالدين لتحقيق أغراض سياسية كافرة وملحدة ومضادة للدين ومحاربة له ومانعة ومضيقة. - العلمانية تضع الدين فوق الذري كما عبر (مصطفي باشا النحاس) وهو الزعيم الأول الذي وقف بشدة ضد اعتبار الدين وسيلة لتحقيق أهداف سياسية مرات ضد الملك ومرات ضد مؤسس جماعة الإخوان ومواقفه معروفة ومسجلة وتاريخية .وكان يدرك الفرق تماما بين المجالين الوطني والديني ولم يحدث مرة أن خلط بينهما. - والعلمانية لا يوجد في تعريفها ما هو معاد للدين (anti- religious ) فهي محايدة تجاه الدين. لكنه الحياد الإيجابي حسب تعبير برناي ستازي الذي رأس لجنة العلمانية والدولة في فرنسا في العام 2003.. الفيلسوف الفرنسي المعاصر أندريه كلوغسمان قال: (العلمانية هي المخرج من احتمالات الحرب الأهلية والفتنة الطائفية والاضطهاد الديني). - وحتي التعريف الذي ساقه لنا الدكتور عبد الوهاب المسيري نقلاً عن المعجم السوسيولوجي المعاصر لتوماس فورد هولت للعلمانية (بأنها هي الاعتقاد والممارسات التي لا علاقة لها بالجوانب المطلقة للحياة الإنسانية) أي ليست لها علاقة بالدين وهي ضرورية لتحقيق أربعة أهداف: - بناء الدولة الوطنية. - الديمقراطية. - منع الحرب الأهلية والفتنه الطائفية. - دخولنا إلي الحداثة. العلمانية توءم الديمقراطية - قد تصادف دولة ديكتاتورية وعلمانية في آن معاً لكنك لن تستطيع أن تشيد دولة ديمقراطية دونما علمانية يقول غليون (أن الديمقراطية تستدعي حتما العلمانية، أي حياد الدولة تجاه الأديان جميعا حتي تضمن المساواة بين مواطنيها كافة، بينما لا تستدعي العلمانية الديمقراطية ولا تتضمنها بالضرورة) فمن العبث القول بنظام ديمقراطي لا علماني فالعلمانية شرط لازم للديمقراطية والديمقراطية لا تنفصل عن توءمها العلمانية و حل مشاكلنا لا يمكن اختزاله في الديمقراطية فقط وإنماً في الديمقراطية والعلمانية. (للدولة.. در ) - قد يقول قائل ولماذا العلمانية الآن ؟.. وأقول: - أولا: أن من طرح القضية هو رئيس الوفد ولا أعرف لماذا طرحها الآن فالوقت غير مناسب والمفروض أننا ننشغل بالانتخابات وليس بالخلاف حول الثوابت؟ - ثانيا: أنه طرحها للمجتمع عبر صحيفة المصري اليوم ثم خص بها خطابة الأول عبر وسائل الإعلام ولم يطرحها داخل الوفد للدراسة والمراجعة عبر لجنه متخصصة في هذا الشأن الفكري المحض. - ثالثًا: إنني من الذين يرون أن كل تراجع لعلمانية المجتمع المدني هو تأخير لاستكمال دعائم الدولة الوطنية. - رابعا: إنني لست من الذين يختزلون حل مشاكلنا في الديمقراطية فقط ويختزلون الديمقراطية في صندوق الانتخابات لكنني أري أن الديمقراطية تبني وتتأسس علي المساواة بين المواطنين في المجال الوطني وتتطلب حياد الدولة والمدرسة تجاه معتقدات مواطنيها كما تتطلب حماية حرية الضمير والاعتقاد أي تتطلب العلمانية. وأخيراً أن يرفض تيار الإسلام السياسي العلمانية فهذا مفهوم ومبرر ومنطقي ومتسق مع الأهداف لديهم فهم لا يريدون دولة وطنية جامعة فبتالي فإن أداة بنائها (العلمانية ) كافرة وملحدة. أما أن يرفضها رئيس الوفد (حزب الدعوة لبناء الدولة الوطنية الحديثة ) حزب الجامعة الوطنية المصرية وليس الجامعة الإسلامية .حزب الوحدة الوطنية. حزب العلمانية (الدين لله والوطن للجميع حزب (الهلال والصليب) الحزب الذي كان نتاجاً لحركة وطنية علمانية مستنيرة وواعية أرخت لبناء الدولة الوطنية في مصر دولة كل مواطنيها وإخراج مصر من نفق الطائفية بعد أن عاشت 4 قرون مجرد ولاية عثمانية تابعة .فهذا غريب ومستهجن. ولكن يبقي السؤال إذا كان هذا الموقف السياسي الرسمي للوفد من العلمانية. وإذا كان هذا حال أكبر وأعرق الأحزاب المصرية الوطنية فهل نكون متشائمين إذا قلنا أن مصر في طريقها إلي عصور وسطي جديدة. وهل نكون فاقدي الأمل إذا رددنا حكمة الراحل العظيم خالد محمد خالد (استمتعوا بالسيئ ..... فالأسوأ قادم) نرجو أن نكون خاطئين. - وأخيرا فأنني أعرف أنه لن يضيق صدر رئيس الحزب الليبرالي بالحوار والمناقشة كما يتوهم البعض.. فهو رفيق درب الدكتور محمود أباظة في رحلة طويلة لإعداد جيلنا منذ أن كنا شبابا قبل أكثر من ربع قرن ولقد علمونا ثقافة الاختلاف عشنا نتعلم منهم ونختلف معهم ونحترمهم لكني أخشي أن يعتمد في الرد علي من لايعرف هذا التاريخ الطويل (المجهول) بالنسبة له أو يتطوع مدعي الثقافة بالرد فالموضوع يستعصي علي إدراكهم المحدود وبؤسهم المعرفي لايمكنهم إلا من الردح والسب الذي لم نألفه في الوفد وأن يقصي من حوله من لايؤمنون بحق الاختلاف فهؤلاء الفاشست يقدمون للوفد أبلغ الضرر وإيمانهم بالمؤامرة يضللهم ويربك آداهم.