قصدت موقف الميكروباص متوجها إلي بيتي في عصر أحد أيام يوليو بعد يوم عمل شاق، حيث كانت القاهرة مختنقة بعوادم السيارات وضجيج الباعة الذين افترشوا آرصفة السير، وماراثون من الكلاكسات من كل اتجاه دون داع، وغضب علي الوجوه مرتسما مجهول العلة، اجتزت الزحام بصعوبة حتي وصلت إلي الموقف سالما غانما، لأفاجأ بضجيج آخر بين السائقين حول أحقيتهم في الدور، وبعد أن فرغوا من الخناق، تمكن أعلاهم صوتا وأقواهم صيتا من الفوز بالدور، اتخذت مكانا بجوار إحدي النوافذ ووضعت سماعة الموبايل في أذني علي إذاعة الأغاني، وبدأت أنصت لأغنية عايدة الشاعر «افتح لي الشباك يا حبيبي» وراح الركاب يتخذون مقاعدهم واحداً تلو الآخر. امتلأت العربة وجلس بجواري رجل وفتاة، ولاحظت ان الرجل يحاول التضييق علي الفتاة بصورة اقرب للتحرش، ورغم محاولاتها بالابتعاد عنه، إلا أنه كان مصرا، حاولت أن اتغاضي عما يحدث، واندمجت في سماع الأغنية، وبعد فترة وجيزة صعد السائق للانطلاق بنا، وادار كاسيت السيارة علي أغنية هابطة تقول كلماتها «بتلعب بوكر وبتشرب جون ووكر» استفزت الكلمات واللحن رجلا ملتحيا حاول اخفاء غضبه لكنه لم يفلح، لدرجة أنه صرخ في السائق : - ممكن يا اسطي تقفل التسجيل. رمقه السائق بنظرة حادة من مرآة المنتصف، ولم يعره انتباها. فعاود الرجل مرة أخري الرجاء: لو سمحت يا اسطي اقفل التسجيل. لكن السائق لم يلتفت إليه وظل في تجاهله وعدم اكتراثه، مما استفز الراكب وفاض كيله من التجاهل العلني، فابتلع ريقه، واخرج من صدره هواء ساخنا كاد يحرق الركاب موجها نداءه الأخير - يا اسطي انت سامعني ولا بتستعبط.. اقفل التسجيل اللي انتي مشغله ده؟ وهنا لم يعد السائق يحتمل، وانفجر بدوره في وجه الرجل: - فيه ايه يا عم..مش عاجبك انزل احنا مش ناقصين خنقة، انت اشتريتني، ملعون ابوه جنيه. لم تعجب هذه الكلمات الرجل بعدما احرجته أمام الركاب، وبدأ الصوت يعلو من جانبهما، حتي غابت عن الاسماع كلمات الأغنيتين، أغنية عايدة الشاعر وأغنية البوكر. وتحول الميكروباص إلي سوق عشوائي لا تحكمه أي ضوابط اخلاقية وتطايرت الكلمات هنا وهناك لتصيب آذان الركاب الذين كانوا يستمتعون بالفرجة والمشاهدة عما سيسفر عنه هذا العراك، بينما الرجل الذي كان يجلس بجواري كثف من جرعات التحرش ولم توقفه تلك الأحداث الجسام التي تصاعدت، وفي المقابل حاولت الفتاة الفرار من قدميه التي راحت تلتصق بها بدرجة مستفزة، استمر العراك بين الرجلين ووصل الامر إلي ذروته عندما قام الملتحي بتكفير السائق الذي لم يقف مكتوف الأيدي واللسان فقام بقذفه بأحط الألفاظ. هنا صرخ واحد من الركاب لم يهنأ بنومة هادئة قائلا: - خلاص يا جماعة .. مش معقول كده.. حرام عليكم.. فالتف إليه الرجل الملتحي، وقال له بهدوء مصطنع : يرضيك كده؟ فرد عليه قائلا: انت برضه اتهمته انه كافر.. وبعدين لو عاوز الحق، انتوا الاتنين غلطانين، هو مش مراعي الناس ومعلي التسجيل علي الآخر، وانت مطلبتش منه يوطيه بطريقة لائقة، وقلت له اقفله.. ويبدو أن كلام الرجل لم ينل استحسان الملتحي، وردد علي الجميع: - بالذمة ده كلام يتسمع، فيها ايه لو يشغل شريط قرآن. فقال الرجل : يا سيدي هو حر.. وانت كمان حر..والناس كمان أحرار يسمعوا أو ميسمعوش؟ والتقط الكلام هنا رجل آخر كان يشاهد الأحداث صامتا: ليفاجأ الركاب بقوله : الموضوع مش موضوع اغنية هابطة ولا اغنية عالية، الموضوع أن الناس مخنوقة وزهقانة، والاكتئاب والملل استولي عليهم، السواق مش لاقي جاز، والشيخ مش شايف انجاز، والدنيا بقت دمها سم، وكل واحد مش طايق نفسه، ربنا يعدل الحال، قولوا آمين، وفجأة صمت كل شئ الاغاني والعراك والتحرش، وراح الجميع يفكرون، والله اعلم بما كانوا يفكرون.