.. ولأن البرجوازية الوليدة كانت قد أتت من رحم كبار الملاك العقاريين، ومارست نشاطها عبر شراكة حميمة من العناصر الأجنبية والمتمصرة فقد ظل موقفها علي الدوام معاديا للعمال وتنظيماتهم، ومع تصاعد المد النقابي ونجاح اليسار في بناء عشرات النقابات التي توحدت في اتحاد عام للعمال.. كان الصدام. وفي بدايات 1923 كان الاتحاد العام لنقابات العمال الذي ضم 35 ألف عامل، وأسرع قادته بالانضمام إلي الاتحاد العالمي لنقابات الحمراء protintern (والتر لاكور.. الشيوعية والقومية في الشرق الأوسط – بالإنجليزية – ص36) وتكتب مجلة Lobour monthly «إن الاتحاد العام لنقابات العمال المصريين والذي ظل تحت قيادة اليساريين في عام 23 – 1924 كان في طريقه لأن يصبح حركة جماهيرية بحق (مايو – 1925) وكان المحامي اليساري أنطون مارون المستشار القانوني للاتحاد قائدا فعليا للاتحاد بشهادة رجال الأمن، ففي شهادته أمام محكمة جنايات الإسكندرية 1924 قال إنجرام بك حكمدار بوليس مصر «لقد كان من الصعب علي البوليس إخلاء المصانع من العمال المضربين بينما كانت إشارة واحدة من إصبع مارون أفندي كافية لإنهاء الإضراب» (الأهرام 25 – 3 – 1924) ولأن المؤامرة كانت قد دبرت بإحكام، فقد تم إعلان حل الحزب الشيوعي وإغلاق مقاره ومصادرتها والقبض علي قياداته في إطار حملة هستيرية قادتها حكومة سعد زغلول والصحف المعادية للعمال جميعا، وحاول اتحاد العمال أن يفلت من الضربة فأصدر السكرتير العام للاتحاد مصطفي أبوهرجة بيانا قال فيه «ما كان اتحاد العمال آلة لحزب من الأحزاب أو هيئة من الهيئات في مصر، إنما هو هيئة وجدت لخدمة العمال، الاتحاد خادم للعمال علي تباين مذاهبهم السياسية ونزعاتهم الحزبية واختلاف عقائدهم الدينية» (الأهرام 10 – 2 – 1924) ويستمر التحريض عبر عديد من الصحف، فيقبض علي مصطفي أبوهرجة وأغلقت كل مقار الاتحاد واستولي الأمن علي أوراقه. وتستمر حملات التحريض الإعلامي بزعامة الأهرام التي كتبت «حقا إننا لا ندري كيف تتجاهل الحكومة وجود حركة اشتراكية حادة بين ألوف العمال، مع أن الواقف علي سير الأحوال يري أن هذه الحركة آخذة بالنمو» وفي عدد آخر تقول تعليقا علي إضراب عمال شركة إيجولين بالإسكندرية «إنفجرت الحركة العمالية الملقحة بالاشتراكية بالإسكندرية عبر الإضراب الذي حدا بالحكومة إلي الاستعداد لقمعه بالقوة المسلحة ونحن نرجو أن تتخذ وزارة الشعب التدابير اللازمة لمنع تكرار ذلك، إن للعمال حقوقا يجب أن تصان ولكن لهذه الحقوق حدودا يجب ألا تتجاوزها وإذا كانت الصحافة قد عطفت عليهم فإنه لا يسعها إلا أن تحذرهم من عواقب الميل إلي الشيوعية».. وتلقفت وزارة «الشعب» هذا التوجيه وبذل الوفد وزعيمه كل جهدهم لحث النقابات علي التخلص من قادتها اليساريين ووجه سعد زغلول مستندا إلي مهابته وزعامته الطاغية نداء إلي عمال شركة إيجولين للزيوت المعتصمين بالمصنع تهددهم «بضرورة احترام ملكية الغير وإلا فإنهم يعاملون معاملة الغاصبين الخارجين علي القانون» (الأهرام 5 – 3 – 1924) ويخوض حزب الوفد بثقله الجماهيري والحكومي المعركة، ونقرأ «عقدت لجنة الطلبة الوفديين بالإسكندرية سلسلة اجتماعات للنظر في مساعدة الحكومة علي مواجهة حركة العمال ببث روح السكينة بينهم لكي يكفوا عن الإضراب ويعولوا علي عطف الحكومة والبرلمان» (الأهرام 27 – 3 – 1924) وانهمكت كل القيادات الوفدية في المديريات في محاولة إقناع العمال بأن السبيل لتحقيق مطالبهم هو الاعتدال والتخلص من قادتهم اليساريين، وتنشر الأهرام «عقدت نقابة عمال شركة ايجولين للزيوت اجتماعا أمس، وكان الغرض الأهم من هذا الاجتماع هو تنصل النقابة من سياسة الشيوعية التي كانت لجنتها الإدارية السابقة تتبعها، وقد حدث هذا التنصل، وغيرت النقابة قانونها، واختارت لها رئيسا جديدا يقودها في طريق العمل المفيد» (الأهرام 9 – 9 – 1924) وتواصلت هذه العملية في عديد من النقابات ومنها عمال الصناعات اليدوية والترام والمياه وعلب الكرتون والمنجدين بالإسكندرية (د. عبدالعظيم رمضان – تطور الحركة الوطنية في مصر – ص545) ثم كان قرار سعد زغلول أن يدخل الوفد بثقله في المعركة سواء بالقبض علي قادة الحزب في 3 مارس أو بالقبض علي قادة اتحاد العمال في 12 مارس ثم وفي 15 مارس يعلن الوفد تأسيس «النقابة العامة للعمال» والتي تحولت سريعا إلي «الاتحاد العام للعمال» وبلغ من اهتمام سعد زغلول بالأمر أن أوكل هذه المهمة إلي واحد من أكفأ رجاله وأكثرهم إخلاصا له وكفاءة في العمل التنظيمي هو عبدالرحمن فهمي صاحب اليد الطولي في العمل الوفدي السري والعلني خلال أحداث الثورة وأيام نفي سعد والقيادات الوفدية، بل إن سعدا قد شارك بنفسه في هذا العمل فألقي أكثر من خطاب في جموع العمال، وفي خطبة له في حفل أقامته نقابة عمال شركة السكك الحديدية وواحات عين شمس في 4 يوليو 1924 قال سعد «أفرح كثيرا وأسر كثيرا كلما شعرت أن هذه الحركة ليست محصورة فيما يسمونه ب «الطبقة العالية» فقط، بل هي علي الأخص فيما أسماه حُسَّادُنا «طبقة الرعاع» وأفتخر بأنني من «الرعاع» مثلكم، فطبقة «الرعاع» كما يسمونها هي الطبقة التي ليس لها صالح خاص والتي مبدؤها ثابت علي الدوام، فإن هذه الطبقة لا تسعي وراء وظيفة تنالها ولا منصب تحل فيه، ولا يبهر نظري ولا يطرب سمعي أكثر من أن أري رجلا فقيرا لا قوت عنده ينادي «يحيا الوطن» وليس يطمع في شيء إلا أن يعيش كما هو، ولكن ذلك الرجل صاحب الأموال وذلك الموظف في المنصب العالي، إذا قال يحيا الوطن فإنما يقول «تحيا وظيفتي أو مصلحتي، ولذلك رأيت كثيرا من أرباب تلك المصالح ومن ذوي الوظائف تقبلوا أو تغيروا، ولكن الرعاع أمثالكم ما تغيروا ولا بدلوا عقائدهم» (إبراهيم الحريري – آثار الزعيم سعد زغلول ص241). إن قيمة هذا القدر من التملق للعمال «الرعاع» يمكن إدراكها من معرفة شخصية سعد زغلول وترفعه في التعامل مع الآخرين وحتي قادة الوفد والمنشقين عليه أمثال عدلي باشا يكن ومحمد محمود باشا وغيرهم.