كان عبدالرحمن فهمي واحدًا من أهم صناع ثورة 1919 بل كان يدها الحديدية الأولي وقائد جهازها السري الذي هدد استقرار الإنجليز في مصر بدأ ضابطًا صغيرًا في الجيش إلا أنه أثار انتباه روسائه بما كان يتمتع به من حيوية وسرعة بديهة وقوة شخصية وموهبة قيادية مما دفع مصطفي فهمي باشا (والد صفية زغلول) إلي أن يختاره ياوراً له حين كان وزيرًا للحربية وقبل أن يضعه الإنجليز فوق مقعد رئيس الوزراء مدة اثني عشر عامًا تقديرًا منهم لولائه الشديد لهم وانصياعه لسياستهم، ولكن وطنية عبدالرحمن فهمي التي لم يستطع أن يخفيها طول الوقت أغضبت الإنجليز فأمرت مصطفي فهمي باشا بالتخلص منه فأبعده عن خدمته وتم نقله من الجيش إلي البوليس، وفي البوليس اصطدم بالمفتش الإنجليزي فتمت إحالته إلي الاستيداع.. ومع أن عبدالرحمن فهمي ظل يعتبر زواج سعد زغلول من صفية ابنة مصطفي باشا فهمي لغزًا من الألغاز إذ كيف يتصاهر النقيضان وكيف يضع سعد سليل أصحاب الجلاليب الزرقاء ونبت الفلاحين الكادحين في قرية إبيانة والذي يتدفق وطنية يده في يد الباشا الأرستقراطي نصير الاحتلال؟! ولكن وطنية صفية وإيمانها الشديد بمنهاج زوجها سعد جعله يعيد حساباته ويقومها من جديد ويعلن أن صفية أكدت بالأفعال وبالأقوال وبانتمائها إلي اسم زوجها في وقت لم تكن المصريات يتجردن كالأوروبيات من ألقاب عائلاتهن. كل ذلك جعله يؤمن أنها تستحق بجدارة أن تكون أما لكل المصريين. ولقد ظلت عين سعد زغلول ترمق عبدالرحمن فهمي من بعيد، وعندما تكونت لجنة الوفد المركزية في أوائل 1919 تم اختيار عبدالرحمن بإجماع الآراء سكرتيرًا عامًا لها. فقام بتكوين شبكة تنظيمية شديدة الإعجاز وضع لها أسلوبين اثنين، أسلوب لعملها العلني في تحريك الشعب وجذبه وتجميعه حول هدف واحد وأسلوب ثان لعملها.. السري أطار النوم من عيون المحتلين وقد استطاع أن يقسم الشبكة إلي عدة شعب هي الشعبة السرية لجمع التبرعات والشعبة السرية الميدانية لمراقبة لجنة ملنر وتعقب أعضاء اللجنة وأنصارها في كل مكان وجمع المعلومات عن عملاء الإنجليز من المصريين والشعبة السرية لجمع المعلومات عن جيش الاحتلال وقدرته المالية وامتداداته الجغرافية داخل البلاد وفي منطقة قناة السويس- كما قام عبدالرحمن فهمي بأهم عمل له وهو تكوين الجهاز الطليعي السري الذي قسمه إلي مجموعات عديدة بكل المديريات (المحافظات) والمراكز والأقسام وبعض القري الكبري دون أن يعرف أعضاؤه بعضهم بعضًا وهو ما فشل في اقتباسه الجهاز الطليعي للاتحاد الاشتراكي العربي بعد ذلك بعشرات السنين. والذي يجهله الكثيرون أن عبدالرحمن فهمي كان يتظاهر أثناء جهاده الوطني بتلقي التعليمات من اللجنة المركزية للوفد وبأنه ينفذ أوامرها ولكن في الحقيقة كان هناك خط سري يربط بينه وبين سعد زغلول باشا بهدف تدبير أعمال لم يكن مسموحًا أن يعرفها غيرهما من أعضاء الوفد، ومن فيض عبقرية عبدالرحمن فهمي السياسية أن قادة الوفد ظلوا يظنون أنه ينفذ توجيهاتهم الصادرة إليه بينما كان ينفذ في حقيقة الأمر تعليمات من صنعه هو بل إن أولئك القادة كثيرًا ما كانوا ينفذون تعليمات من صنعه دون أن يدركوا أنه كان مصدرها. وتحدثنا الوثائق أن سعد زغلول باشا بعد أن ذهب إلي مؤتمر الصلح في فرساي ولم يستطع تحقيق أهدافه وبعد إغلاق جميع النوافذ والأبواب هناك في وجهه وبعد أن صدمه النفاق الدولي وتجمع المصالح الدولية ضد المبادئ الوطنية وحق الشعوب في حريتها واستقلالها أبرق سعد زغلول بذلك إلي محمود سليمان باشا وهو في شديد الحسرة والأسف لتلك الخسارة التي خسرتها القضية المصرية باعتراف ألمانيا بالحماية علي مصر وبتنكر الولاياتالمتحدة لمبادئها الكاذبة التي صدعت الرءوس بها وبجري فرنسا وراء اقتسام المستعمرات وكأنما أطماع الحروب الصليبية عادت تطل برأسها من جديد وهي أشد فتكًا هذه المرة لأنها صليبية جاءت بوجه جديد لا تستخدم فيه السلاح ولكنها تستخدم فيه الخداع والأكاذيب والمؤامرات والاتفاقات الثنائية الخبيثة الخسيسة. وهنا تظهر حنكة عبدالرحمن فهمي حين وقعت في يده برقية سعد باشا فيقوم بتجريدها من كل آثارها السلبية التي أصابت لجنة الوفد باليأس وبالاحباط إذ يرسل هو برقية مضادة إلي سعد باشا يخبره فيها أن برقية زائفة ممهورة بتوقيع سعد وصلت إلي محمود باشا سليمان لم يصدقها أحد لأن سعد العظيم يدرك جيدًا أن الأمة المصرية تعلم أن الاستقلال ليس طردًا أو بضاعة مخزنة في مخازن اللوفر تباع وتشتري بأيدي تجار وعملاء وسماسرة، فأبواب الغرب المغلقة لا قيمة لها لأن الأبواب غير الرسمية كلها مفتوحة أمام سعد زغلول وهي المجالس النيابية والجرائد والرأي العام في كل مكان وكلها هي التي تحرك الحكومات!! وكان رد فعل المحتلين علي برقية عبدالرحمن فهمي المضادة هو اعتقاله وظل سجينًا حتي عام 1924 دون أن يهتم واحد من الزعماء الوطنيين المؤثرين حتي يطلب الإفراج عنه إلي أن أفرج عنه ضمن حركة الإفراج الشاملة التي أصدرها سعد زغلول حين جاء رئيسًا لمجلس الوزراء. وخرج عبدالرحمن فهمي من سجنه مصابًا بالاكتئاب والحزن الشديد لتركه في سجنه تلك المدة دون أن يأبه أحد بأمره ودون أن يعامل نفس معاملة المسجونين من قادة الوفد الآخرين الذين لم يتركوا في سجنهم مثله رغم أنه كان الأعلي قدرًا والأخطر عملاً. ولقد اتجه بعد هذه المرحلة وجهة أخري حيث قام بإنشاء عدة مراكز وفدية داخل التجمعات العمالية وكان بذلك سباقًا إلي إدراك أهمية صبغ الحزب السياسي الكبير صبغة اجتماعية جديدة وإضافة ديناميكية حركية إليه تزيد من فاعليته وشعبيته وربطه بقضايا الإنتاج المباشر خاصة أن التيارات اليسارية في ذلك الوقت كانت المستحوذ الوحيد علي التجمعات العمالية الصاعدة والتي بدأت تتكاثف بعد ثورة طلعت حرب باشا الاقتصادية الرأسية والأفقية. وهكذا استطاع صاحب اليد الضاربة في ثورة 1919 أن يؤسس هيكلاً جديدًا لم تعرفه مصر هو الاتحاد العام لنقابات عمال وادي النيل.. ولكم كان مذهلاً في ذلك الزمن المبكر أن يجمع عبدالرحمن فهمي في ذلك الاتحاد العمالي مائة وعشرين نقابة فرعية تضم مائة وخمسين ألف عامل بينما دوت التهافات في سماء مصر وفي كل مكان تناديه بزعيم العمال وعندما رأي الإنجليز أن الزعيم العمالي والنقابي الكبير الجديد عبدالرحمن فهمي لم يتعال علي العمال ولم يتكسب من ورائهم ولم يتجر بقضيتهم فضلاً عن سابقة زعامته العمل السري لثورة 1919 أرادوا الخلاص منه نهائيا وسرعان ما انتهزوا حادث مقتل السردار حتي جعلوا من عبدالرحمن فهمي متهمًا رئيسيًا وأعدوا أدلة اتهام وشهادات كاذبة ملفقة أدانوه بها وحكم عليه بالسجن للمرة الثانية، وكان سجنًا مهينًا أنهك صحته وبدد طاقته وسلب حيويته ومن أسف أنه لم يجد سندًا له في محنته الظالمة وهو الذي ساهم في صنع من اعتلوا المناصب وكونوا الثروات واقتنوا الضياع وشيدوا القصور وأصبحوا يحملون ألقاب الباشوية وأصحاب المعالي والسعادة والدولة والعزة. ولقد خرج عبدالرحمن فهمي في النهاية من محبسه عليلاً سقيمًا فآثر أن يعتزل الحياة السياسية والنقابية، وانهار اتحاد العمال الذي أسسه وتلقفه الانتهازيون واهتزت مكانة الرجل كثيرًا بعد أن نشط النمامون والدساسون وأحدثوا الوقيعة بين رمز ثورة 1919 وقائدها السياسي وعقلها المدبر سعد زغلول وبين قائدها الديناميكي المفجر عبدالرحمن فهمي.. ولكن يومًا مشرقًا جديدًا جاء ليسمع فيه عبدالرحمن فهمي صوت الرائدة العظيمة فاطمة اليوسف (روزاليوسف) وهي تهمس في أذنه أنها تضعه بين مقلتيها وفي حدقتي عينيها وأن مكانه الجديد معها شريك جهاد وصنو كفاح في مجلتها روزاليوسف وأصبح عبدالرحمن فهمي مديرًا لروزاليوسف التي أصبحت عنده أكبر من كل الأحزاب، إلا أن الحزبية التي تسري في دمه غلبته علي أمره فوضع يده من جديد في يد اثنين من كبار قادة الوفد خرجا علي الوفد هما أحمد ماهر باشا ومحمود فهمي النقراشي باشا وبين يوم وليلة أصبح عبدالرحمن فهمي واحدًا من قادة الحزب السعدي الوليد.. ويضحك عبدالرحمن فهمي وهو يردد: «لك الله يا سعد باشا وطيب الله ثراك.. حتي في خصامي معك بقيت أدمنك إدمانًا مثل كل المصريين. ويشاء قدري أن يكون الحزب الجديد الذي انتميت إليه يحمل اسمك». ويبدو أن تركه حزب الوفد الكبير وانتماءه إلي الحزب السعدي كان فيه حكمًا بالإعدام علي كل جهاده الوطني الطويل إذ تمضي السنين وهو في طي النسيان حتي الفيلا التي كان يملكها اغتصبتها الدولة من ورثته لتجرهم إلي المحاكم حتي هذه اللحظة.. ولست أدري لماذا لم تحتفل به وزارة الداخلية ولماذا لم تدرج اسمه بين المكرمين في كل أعياد الشرطة مع أنه كان ضابط شرطة؟ ولماذا لم تذكره وزارة الدفاع مرة واحدة مع أنه كان في البدء ضابط جيش؟ ولماذا تجاهله اتحاد العمال بينما كان هو المؤسس لأكبر وأول اتحاد عمال بينما حصل آخرون ليس لهم أي دور وطني علي الأوسمة والنياشين في أعياد العمال بينما اختفي اسمه من سجلات التكريم؟ ولماذا لا يقوم حزب الوفد بتكريمه مع سعد والنحاس وسراج الدين ولو باطلاق اسمه علي إحدي قاعات مقر حزب الوفد أو بإقامة تمثال له في زمن كثرت فيه الهياكل والتماثيل؟ ولماذا لا تصبح سيرته ضمن مقرر انتماء وطني في كتب وزارة التعليم؟ ولماذا لا تذكره وزارة الإعلام في يوم وفاته أو في يوم مولده أو بواحد من مسلسلاتها التليفزيونية ولو علي سبيل تطهير شاشة التليفزيون بقي الأمل في وزارة الثقافة ولتكن البداية بهذه السطور في جريديتنا القاهرة التي تنتمي بيولوجيًا إلي وزارة الثقافة.. ومبلغ ظني أن وزير الثقافة الهمام سوف يعمل علي إقامة متحف لعبدالرحمن فهمي ولو في مقر بيته السليب المنهوب دون انتظار لحكم القضاء في إعادته إلي ورثته الشرعيين.. وقتها سوف أسجد لله شاكرًا علي أفول هول كل هذا الجحود والنكران؟