د.رفعت السعيد مناضلون يساريون مبارك عبده فضل «2» «وتعلمت الدرس الحاسم، فالبرجوازيون الصغار في صفوفنا هم الأكثر كلاما والأكثر نقداً والأسرع في الهروب». مبارك عبده فضل خرج من المعتقل إلي أحضان «حدتو» التي عانت طوال فترة 1947-1949 معاناة شديدة كثير منها بسبب المطاردات الأمنية، لكن الأكثر أتي من الانقسامية. الانقساميون ملأوا الدنيا ضجيجا، ومزقوا المنظمة، وثرثروا بما كشف أمان الكثيرين وفي المعتقلات والسجون كانوا الأعلي صوتا والأكثر نقدا للآخرين كل الآخرين، وعندما أفرج عن الجميع ذابوا بعيدا عن الأنظار. عديد من قادتهم تقبلوا برضاء الدخول في المصيدة التي نصبها لهم فؤاد سراج الدين. وكان وزيرا للداخلية في حكومة الوفد. والعرض بسيط للغاية. الدولة ستوفدك لإعداد رسالة الدكتوراه في الخارج وقبل الكثيرون منهم وسافروا إلي لندن وباريس ولم يعد كثيرون منهم إلا بعد انتهاء الأيام الصعبة. لكن مبارك ليس أمامه ولا خلفه سوي حزبه ونضاله فوضع نفسه تماما وبشكل كامل تحت تصرف الحزب، وأصبح عضوا في السكرتارية المركزية التي تمثل أعلي مستوي قيادي يومي، وتولي العمل في قطاع منطقة المعز (القاهرة) كما كلف بالإسهام في إصدار مجلة البشير. وكانت «البشير» هي الخطوة الأساسية في تحقيق توجه جماهيري حقيقي لمنظمة حدتو. استأجر الترخيص فتحي الرملي وأصدرها لفترة بمعاونة مجموعة ماركسية صغيرة ثم انفتحت عليه «حدتو» واتفقوا علي أن تمول حدتو الجريدة (100 جنيه كل عدد) وأن تحرر صفحاتها ماعدا مقالات فتحي الرملي. وأن تقوم بتوزيعها، ولا مقر للجريدة. يلتقي المحررون الثلاثة فتحي الرملي- عبد المنعم الغزالي- مبارك عبده فضل في قهوة صغيرة بالفوالة قبل موعد صدور العدد بيوم يكتبون العدد بأكمله وكان في الأغلب لا يحمل توقيعاتهم، لكنني أحضرت مجموعة البشير والتقيت مع مبارك فأشار إلي عدد من المقالات مؤكدا أنه كاتبها. وفي أول عدد صدر بمساندة حدتو كتب مبارك «إن هدفنا أن نخلق بمجهودنا ومجهودكم مجلة حرة تمثل الأحرار في مصر وتربطنا بالمعركة المستعرة الأوار في العالم والتي تهدف إلي القضاء علي الاستعمار بشتي صوره والقضاء علي تجار الحروب أعداء السلام، لقد عقدنا العزم علي أن نقفز قفزة كبيرة إلي الإمام، ونخرج المجلة في ثوب جديد، ولن يتحقق هذا الأمل إذا لم تساهموا بجهودكم معنا» (البشير1/7/1950) ويجدر بنا أن نسجل أن «البشير» كانت توزع بأيدي اعضاء وكوادر حدتو. ولا يستثني أحد من مهمة التوزيع. فحتي مبارك عضو السكرتارية المركزية كان يتسلم حصته من المطبعة ليدور علي المقاهي والاندية النوبية ليوزع البشير مساء. وفي صباح اليوم التالي يحمل عددا من اللفافات إلي عدد من مدن بحري. وفي كل اسبوع كان يحضر إلي المنصورة لينتظرني عند بقال عضو جديد في التنظيم لأمر عليه بعد انتهاء الدراسة واتسلم منه خمسين نسخة واعطيه ثمن العدد السابق.. ثم نمضي ساعة أو أكثر لنتابع تطور العمل الحزبي. وكان أكثر ما يلح عليه الرفيق داود (مبارك) هو توسيع قاعدة العضوية والعمل الجماهيري. وكان يدقق كثيرا في مجال العمل من أجل السلام ويحصي بدقة عدد التوقيعات التي جمعناها طوال الأسبوع علي ميثاق استوكهولم الذي يطالب بحظر استخدام الأسلحة النووية0 وتغلق «البشير»، ثم تحترق القاهرة، ويختفي مبارك، فقد كان يزهو دوما «إذا لم يكن لديك مسكن فأنت في مأمن من غدر البوليس. لكنه وبسبب ضعف ابصاره الشديد كان يتعرض للقبض عليه سريعا. وقبض عليه وإلي السجن من جديد. ثم تكون ثورة يوليو ويجري صراع شديد وساخن حول الموقف منها، خاصة أن الرفيق ستالين هاجمها وقال إنها تعبير عن انتصار عملاء الاستعمار الأمريكي علي عملاء الاستعمار الانجليزي، لكن «حدتو» كانت شريكة في صناعة الثورة (خالد محيي الدين- يوسف صديق- أحمد حمروش- أحمد فؤاد وعشرات من الضباط) فكيف يمكن أن يقبل أحد أنها صناعة أمريكية؟! ولكن من يستطيع مواجهة ستالين؟. وتصدي مبارك بشجاعة ليعبئ كل «حدتو» في مسار التمسك بالموقف الصحيح تأييد الثورة وشن حملة شديدة للمطالبة بالديمقراطية، لكن الشق الثاني أدي إلي صدام عنيف انتهي بعديد من الكوادر إلي السجون الناصرية. وكان مبارك هو المحرك الأساسي للتمسك بهذا الموقف الصعب أن تغضب الحركة الشيوعية العالمية والحكام العسكريين معا. كان الثمن باهظا. لكن الموقف كان صحيحا، وهكذا فرض مبارك علي الشيوعيين المصريين منطقا صعبا: أن تتمسك بالموقف الصحيح مهما كان الثمن الذي تدفعه. وتثبت الأيام صحة موقفه. وإذ تتوالي فترات السجن يستقر به المقام في «سجن مصر» (كان في موقع كوبري السيدة عائشة» وسط حوالي ستمائة من الشيوعيين من مختلف التنظيمات فينشط داعيا إلي الوحدة وينجح في تشكيل لجنة للوحدة (مبارك من حدتو - حمدي عبدالجواد من حدتو ت.ث- ابراهيم عرفة ( النواة) أحمد خضر(النجم الأحمر) فخري لبيب (طليعة الشيوعين) واختاروني لتولي سكرتارية اللجنة، أسجل المحاضر وأخفيها وأتولي اخراجها إلي خارج السجن حيث وجدت لجنة موازية، وأثمر هذا الجهد «الحزب الشيوعي الموحد». ويتوالي السجن مرة ومرات حتي يكون الإفراج عن الجميع في 1964. ثم يكون حل التنظيمين الشيوعيين الكبيرين. وفي اليوم التالي مباشرة للنكسة كان مبارك يجمع خمسة من الكوادر ليؤسس معهم حزبا جديدا سريا تماما، ومشكلا أساسا من عضوية جديدة ، أما مطبوعاته فكانت توقع «أحمد عرابي المصري» إمعانا في السرية. ويبقي مبارك عبده فضل، مقاتلا حتي الرمق الأخير.