مناضلون يساريون سيف صادق أصعب شيء وأجمل شيء أن تعمل وتناضل وسط الفلاحين، يبدون في ظاهرهم غير مبالين أو حتي خائفين لكنهم في الواقع يلتهبون ثورية. سيف صادق (في حواره معي) هناك بعيدا جدا، تماما علي خط الحدود مع السودان كان بيت سيف صادق في قرية أدندان باب البيت في مصر، وشباكه يطل علي السودان. القرية فقيرة ليس ككل القري النوبية، لكنها الأفقر، ولو ليلة رأس السنة في 31/12/1931 ولكن لا أحد هناك يعرف ذلك الشيء المسمي رأس السنة، فقط طفل جديد يأتي، ليكبر ويعمل في القاهرة خادما ويرسل ما تعيش به الأسرة، ويكبر الطفل فينفتح أمامه طريقان تقليديان أن يعمل خادما أو أن يجاور في الأزهر، هو كسر القاعدة، فالأسرة لا تمتلك ترفاً أن يجاور ابنها في الأزهر ولم تكن المنحة الشهرية قد تقررت بعد، فقط الجراية وهي عدة أرغفة، وهو لا يقبل أن يكون خادما أو بوابا واختار أن يكون عاملا، الفتي النحيل المبروم كنواة ثمرة بلح نوبية خلع الجلباب وارتدي بنطلونا أزرق ليعمل ميكانيكي سيارات، وسكن كالعادة في الفوالة، لكنه يعود ليكسر القاعدة فيصبح وفديا متحمسا ويصبح سكرتيرا للشباب الوفدي في الفوالة. الفتي هادئ، نادر النطق، لا يبدي وجهه أي انفعال ينساب دون أن يلحظه أحد إلي الورشة ليقضي نهاره ممددا تحت سيارات الأغنياء أو رافعا برأسه حيث الموتور.. ويصبح أسطي يعرف كيف يكسب تقدير الجميع، وفي 1947 تلتقطه عين عبده ذهب ويضمه إلي خلية كلها طلاب وكلها نوبيون «زكي مراد، مبارك عبده فضل، محمد خليل قاسم» كانت هناك حوارات لا تنتهي هو لا ينطق فقط يستمع، يتعلم، يقرأ ويجند عمالا وشبانا وفديين ويمتلئ حي عابدين بحصاد نضاله، يقول زكي مراد ذات يوم نطق سيف «الرفيق عز» مقدما قائمة طويلة من أشخاص جندهم، لم نهتم بهذه الثروة النضالية فقط صحنا جميعا «أخيرا نطقت وسمعنا صوتك». وفي عام 1948 يقبض عليه ليمضي في السجن عامين ويفرج عنه ليقرر التوقف عن إصلاح سيارات الأغنياء ويحترف، يترك كل شيء ويذهب إلي منطقة بحري، وهناك التقينا كان ينساب من طنطا إلي المنصورة دون أن يشعر به أحد وإذ نجتمع كان لا ينطق إلا نادرا، هادئا هو لكنه في كل اجتماع كان يخجلنا يأتي ومعه ثروة من رفاق جدد.. وقري جديدة فتحها وأقام فيها نقطة ارتكاز، وما أن يأتي عام 1951 حتي كانت منطقة بحري تموج بفعل ثوري صاخب وانتفاضات فلاحية ضد الإقطاع، وكوادر فلاحية ونشرة دورية سرية واسعة الانتشار «صوت الفلاحين»، وفيما نحن نزهو بمظاهراتنا في شوارع المنصورة وغيرها من المدن تأييدا لإلغاء معاهدة 1936، كان هو يبني ركائز في عشرات القري، وأخيرا نطق وبهدوء قال: إنه يودعنا فقد شكل كتيبة من الفلاحين والطلاب ووافقت اللجنة المركزية علي ضمهم إلي كتائب الأنصار التي شكلتها حدتو لتحارب الاستعمار في منطقة القنال، وكلفته بالسفر مسئولا عن هذه الكتائب. وتحترق القاهرة وينساب هاربا إلي قري لا تخطر علي بال أحد، ويعتقل عام 1953 ليبقي حتي 1956، فينساب مرة أخري إلي عشقه الريفي المذاق وكعادته يكمن هادئاً ثم يفاجئ الجميع بمشروع لم يتجاسر عليه أحد فقد أسس مشروعا للنشر في طنطا «دار الفجر» وأصدر أول مجلة يسارية فلاحية، وكانت «الفجر» بداية لنشاط فلاحي واسع بحيث أصبحت منطقة بحري أهم نقطة ارتكاز ثورية للحزب، وفيما ينعم الجميع في غفلة التعاون مع النظام الناصري تأتي حملة أول يناير 1959 ويعتقل هو ومجموعة من رفاقه في طنطا، وفي المعتقل كان التعذيب الوحشي لكن قطعة الجرانيت الآتية من الجنوب تظل مستعصية علي إبداء أي انفعال أو توتر، كان صمته وهدوؤه يغيظ الجلادين ويزعجهم فيمنحونه مزيدا من التعذيب لعله ينطق أو يتأثر لكن وجهه الهادئ يظل بلا انفعال، وحتي عندما تغلق الزنازين وتنهمر الانفعالات، ألما وغيظا كان هو هادئا بلا توتر وبلا انفعال وكأنه قضي طوال يوم جالسا علي مقهي يشرب الشاي، وكان هدوؤه يخجلنا فنحاول أن نقلده دون جدوي. ويفرج عنه مع الجميع في 1964، ويمنح وظيفة بسيطة في الشركة العامة لاستصلاح الأراضي لكن الحنين الغامر للنضال يدفعه إلي أن يكون واحدا من خمسة أعادوا تأسيس الحزب، وبهدوء وكأنه يتخذ قرارا بإعداد كوب شاي أبلغ رفاقه الأربعة أنه خلع ثياب الأسطي سيف الذي يشرف علي إصلاح جرارات الشركة وارتدي ثياب الرفيق «عز» لم ينتظر قرارا من أحد ولا موافقة من أحد وأصبح من جديد محترفا. ومن جديد أيضا إلي طنطا حيث يعيد المجد الفلاحي مرة أخري وتتسع رقعة نشاطه فيقبض عليه عقب إضرابات عمال حلوان في يناير 1975 فقد كانت أصابعه هناك أيضا، وبعد الإفراج عنه يختفي نهائيا هم يشعرون بأصابعه ويرون آثار أقدامه في عشرات القري ولكن لا يعرفون أين هو وعقب أحداث يناير (18 - 19 يناير 1977) يطلبونه هو بالذات ولايجدونه ويظل هاربا ومطلوبا ومناضلا لمدة عامين ونصف العام.. وإذ تنتهي القضية يعود للظهور، وبعد فترة يأتيه النبأ الصاعق وفاة زميل عمره زكي مراد، وقبلها كان محمد خليل قاسم قد رحل، هنا فقط بدأ يتململ، تبدو علي وجهه مشاعر ليست حزينة لكنها توحي بأنه قرر الرحيل، ويتحول الحزن إلي مرض غريب لا يملك الأطباء تفسيرا له، إلا أنه قرار بالرحيل. وعندما حان وقت القرار النهائي استدعي علي عجل صابر بسيوني الذي أتاه بسيارة وتجول معه في حي عابدين وحواري الفوالة يستوقفه لحظة ليقول له هنا كنت هاربا، ثم هنا جندت فلانا، هنا أخفيت المطبعة الحزبية، ويتجول.. يتجول يري كل مكان أحبه وكل موقع شهد نضالا له، وكانت البسمة الراضية ترتسم علي وجهه فقد فعل ما يجب وربما أكثر مما يجب، وفيما كان يستنشق عبير النضال القديم كان يلفظ آخر أنفاسه.. كسر القاعدة أيضا، لم يمت في المستشفي ولا في بيته مع زوجته وأولاده وإنما في السيارة وهو يقبل عتبات النضال القديم فمات بين أنفاس أحب أصحابها ومنحهم ضوء الفكر التقدمي وأحبوه هم وظلوا يذكرونه دوما.. ورحل.