يغضب مثقفو حزب الحرية والعدالة القادمون من جماعة الإخوان المسلمين حين يكشف لهم المثقفون الديمقراطيون عن حقيقة أنهم هم- أي مثقفو الإسلام السياسي- الذين يجعلون الوصول إلي أرض مشتركة بين كل المثقفين أمرا مستحيلا. وتنبع استحالة هذا الوصول من حقيقة أنهم يتعاملون باستعلاء مع كل القوي الأخري باعتبارهم هم أصحاب اليقين وممثلو الدين الحقيقيون وعلي الآخرين أن يأتوا طائعين إلي أرضيتهم وأن ينصاعوا لقيادتهم. وحقيقة الأمر أن مبدأ السمع والطاعة لدي جماعة الإخوان المسلمين ليس مبدأ تنظيميا فقط ينهض علي الإنضباط شبه العسكري في علاقة القادة بالاتباع، ولكنه مبدأ فكري أيضا يحرم طرح الأسئلة، ويقدم الأجوبة وحدها أي أنه يرفض النقد، والنقد هو جوهر الثقافة وهو الأساس الذي تطورت عبره الأفكار والفلسفات عبر العصور لتنتقل من مرحلة لأخري في سياق التقدم المتواصل للحضارة الإنسانية، فالنقد الحقيقي لا يحلل الأجوبة بل يطرح الأسئلة ومن رحم السؤال يخرج الجديد المدهش في كل من الفن والعلم وحتي العلاقات الإنسانية والطبقية. وأجوبة الإخوان المسلمين جاهزة منذ نزول الرسالة وهي لا تتبدل ولا تتغير رغم أن التغيير هو سنة الكون وهو الشيء الوحيد الثابت في هذا العالم. وتشير هذه الأجوبة الجاهزة مسبقا علي كل سؤال إلي الضيق الشديد في المرجعية التي يعتمدها الإخوان المسلمون الذين لا يعترفون بتنوع مصادر المعرفة والثقافة خارج القرآن والسنة، بل إنهم يزيدون الأمر ضيقا حين يقدمون قراءة حرفية نصية جاهزة بدورها من قديم الزمان لكل من القرآن والسنة ويرفضون التأويل وكل المعارف الجديدة التي تكشف عن أعماق مختلفة وعلاقات متنوعة داخل هذين المصدرين وتضعهما في قلب العصر. ولا يلتفت مثقفو الإسلام السياسي إلي مغزي التجربة التاريخية التي بينت كيف أن الثقافة العربية الإسلامية تطورت بصورة هائلة، فاضاءت العالم لثمانية قرون في الاندلس حين انفتحت علي مصادر ثقافية أخري ونهلت من علوم وفلسفات اليونان وبيزنطة وفارس، ونشأ تجادل خلاق بين كل هذه الثقافات مما أهل الثقافة العربية الإسلامية لتلعب دورا مركزيا في خروج أوروبا من العصور المظلمة لبداية عصر النهضة عبر اضافات المفكر المسلم «ابن رشد». واستجابة للنزعات المحافظة في المجتمعات الإسلامية الراكدة أزاح الإسلام السياسي هذا التيار التجديدي القوي في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، واعتمد المصادر الجامدة والنصية لتتولد لديه اتجاهات تكفير الخصوم والتي هي أرضية خصبة للعنف المادي والمعنوي مباشرا وغير مباشر. وهي الأرضية التي تربت عليها جماعات العنف المسلح التي كفرت الحاكم والمجتمع وقتلت السياح والأقباط وتحرشت بالنساء. كان طبيعيا والأمر كذلك أن لا يصبح الإخوان المسلمون وكل جماعات الإسلام السياسي طرفا في حركة الإصلاح الديني التي قادها عبر العصور مفكرون أفراد شجعان نادرا ما انتصرت لهم المؤسسة. بل وأصبح الإسلام السياسي طرفا محرضا أو فاعلا في قتل المفكرين المجتهدين والمصلحين سواء كانوا يقومون باجتهادهم في إطار الإسلام أو خارجة، وفي إطار الإسلام كتب الشهيد الراحل «فرج فودة» كتابه عن «الحقيقة الغائبة» التي كشف فيه عن حقيقة عصور الخلافة التي سوقها الإسلام السياسي للمواطنين البسطاء باعتبارها عصورا ذهبية مثالية. وبين فودة بالوثائق والوقائع أنها كانت عصور صراع علي السلطة والثروة امتلأت بالسفه وبالمؤامرات والدسائس حتي أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين ماتوا مقتولين. وقام أحد الجهلاء بقتل فرج فودة وشهد الدكتور محمد الغزالي الذي يعتبرونه إسلاميا معتدلا في المحكمة لصالح القاتل قائلا إن الدولة هي التي عليها أن تقتل المرتد، ذلك رغم أن فرج فودة كان مسلما مؤمنا موحدا بالله، فضلا عن أنه من الثابت – حتي ولو كان مرتدا كما قالوا- أنه ليس هناك حد ردة في القرآن الكريم الذي قال لنا من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر»، وقال أيضا «أفأنت تكره الناس حتي يكونوا مؤمنين». وفي لبنان بدلا من أن يدخل كل من حزب الله وحركة أمل الشيعيتين في حوار مع الباحث والمفكر المناضل الماركسي حسين مروة الذي وضع سفرا بالغ الأهمية والجدة عن النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية، بدلا من الحوار قامت إحدي الحركتين بقتل حسين مروة الشيخ الذي كان قد تعدي الثمانين. كما لاحق دعاة الإسلام السياسي كل من الباحث الراحل في علوم القرآن نصر حامد أبو زيد والباحث د. أحمد صبحي منصور الذي يدعو لاعتماد القرآن كمرجعية وحيدة مستبعدا السنة النبوية لأن الأحاديث تم جمعها بعد وفاة الرسول بمائتي عام، وصدرت عشرات الكتب عن الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبدلا من إثارة جدل عام حول مقولات القرآنيين جرت ملاحقتهم في المحاكم إلي أن هاجر أحمد صبحي منصور وسكت صوت القرآنيين. ويطول سجل مخاصمة الإسلام السياسي لدعوات الإصلاح مما يجعل الوصول لأرض مشتركة بينهم وبين القوي الديمقراطية أمرا يكاد يكون مستحيلا لأن شرط هذا الوصول هو قيام مثقفي الإسلام السياسي بإجراء نقد ذاتي موضوعي ونزيه بدءا بالتخلص من فكرتهم المركزية التي تهيئ لهم أنهم هم المسلمون والآخرون غير ذلك أي كفار ومن هذه الفكرة ينبع استعلاؤهم وممارساتهم العنيفة وانغلاقهم علي الذات واستحالة اقترابهم من الآخرين دون إملاء.