حسين مروة قبل ربع قرن قام مسلحون باقتحام مسكن المفكر الماركسي حسين مروة في بيروت وكان نائما في سريره وأطلقوا عليه سيلا من الرصاص قتله، وتفرق دم الشهيد حينذاك بين «حزب الله» وحركة «أمل» وحتي الآن لم يتوصل أحد للحقيقة إذ كانت الحرب الأهلية اللبنانية لاتزال جارية فصولها الدامية، وكان هناك القتل اليومي علي كل الجبهات. ولم تخسر الحياة الثقافية والسياسية مفكرا كبيرا بطريقة وحشية فحسب وإنما خسرنا أيضا الجزء الثالث من كتابه التأسيسي الكبير «النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية»، وكان الراحل الكبير قد جمع مادة هذا الجزء دون أن يتوفر له الوقت ليكتبها. وجاء قتل كل من الشهداء «حسين مروة» و«مهدي عامل» وسهيل الطويلة إعلانا سافرا عن عجز التيارات الدينية المحافظة عن التحاور السلمي مع منهجهم النقدي العلمي الموضوعي في قراءة كل من التاريخ والتراث والواقع وعدم القدرة علي مواجهة النفوذ الواسع الذي مارسه هذا المنهج علي قطاعات متزايدة الاتساع من شباب الباحثين والمناضلين، وكان هذا الانتقام الخسيس يوجه رسالة لكل المفكرين الشجعان الذين وضعوا أسس الفهم الواعي للتاريخ والتراث العربي الإسلامي باعتباره نتاج بشر، أو شرعوا أبواب النقد لا فحسب من أجل معرفة علمية للواقع وإنما أيضا من أجل تغييره للأفضل. وتكررت ظاهرة اغتيال المفكرين والمبدعين في كل من مصر والجزائر، وفي الجزائر جري قتل ما يزيد علي مائتي مثقف ومفكر بينهم الفنان والمفكر المسرحي عبدالقادر علولة الذي كان قد أخذ هو وفريق الأول من مايو يطور رؤية جديدة تماما للمسرح تربطه بأوسع جمهور وتدفقه للتساؤل والنقد هو العنوان الكبير الذي جمع بين كل الذين طالهم سلاح الاغتيال من الفنانين والمفكرين والكتاب الذين جاءوا من منابع مختلفة من حسين مروة ومهدي عامل إلي نجيب محفوظ وفرج فودة وعبدالقادر علولة وغيرهم. النقد هو الذي يسمح بالتميز بين الوجود الفعلي أي الواقع المحدد من جهة، وبين الفكرة من جهة أخري وهو يتطابق أيضا مع القدرة علي الحكم، كذلك يمكن أن يتطابق مع العقل في تطوره التاريخي لا يحلل الأجوبة ولا يتلقاها كمسلمات إيمانية بل يطرح الأسئلة ويثير شهية العقل للتساؤل والفعل ويبحث عن حلول للسؤال حالما يصبح سؤالا حقيقيا وتفكيرا في البني والأنساق النظرية القائمة مستهدفا بناء نظرية جديدة أو علم جديد علي أنقاضها، وهو الاشتراكية العلمية في حالة حسين مروة ومهدي عامل وعبدالقادر علولة التي تري في الحياة الاجتماعية كلا واحدا وتقوم علي دراسة نقدية لكل المجالات الخاصة فيه مثل القانون والدين والأخلاق والاقتصاد. والنقد بهذا المعني يرفض البحث الكمي التجزيئي، دون رؤية العلاقات الداخلية التي تنتظمها لتشكل منها ظاهرات عامة، أو رؤية العلاقات الخارجية التي تنفعل بها وتتفاعل معها، أو رؤية التحولات الكيفية لتلك التراكمات الكمية. كان العجز أمام عملية الكشف التي قام بها الدكتور «فرج فودة» من موقعه الليبرالي فكريا لطبيعة العلاقات السياسية القائمة علي صراع المصالح في أزمنة الخلافة والتي بين أنها كانت عصورا مثل كل العصور وأن إضفاء طابع القداسة عليها باعتبارها عصورا ذهبية ليس إلا عملية تزييف - أقول كان عجز الجماعات السياسية الإسلامية في مصر عن مواجهة هذه الحقائق أمام الجماهير التي حاولوا إقناعها أن العودة إلي الزمن الماضي حيث نجد هناك مستقبلنا الزاهر سببا في اتخاذ القرار بإسكات صوته إلي الأبد. إن إسكات النقد والتعمية علي الحقيقة هما عنصرا استراتيجية ثابتة لجماعات الإسلام السياسي في كل مكان من طالبان للجبهة القومية الإسلامية في السودان لكل من «أمل» و«حزب الله» في لبنان والجماعات الإسلامية في الجزائر وفي مصر وغيرها. وقد نجحت هذه الاستراتيجية في محاصرة وتحجيم الرؤية العلمية الموضوعية للتاريخ والتراث العربي الإسلامي، ووضع الحواجز وصولا للتكفير والقتل بين الجماهير المتدينة وبين التأويل المستنير للنص الديني، وسوف تكون هذه هي معركتنا الآن نحن الاشتراكيين والتقدميين كيف نحطم الحواجز بيننا وبين الجماهير العريضة، ولن تكون هذه معركة علي الصعيد الفكري وحده فهي خاسرة قطعا لو بقيت كذلك، وإن كان خوضها علي الصعيد الفكري ضرورة أولية لتبيان كيف أن ذلك كله يرتبط بالخيارات الاجتماعية الاقتصادية السياسية للقوي المتصارعة، والصراع الآن لايزال كما شخصه «حسين مروة» قبل ربع قرن دائرا بين القوي الثورية في حركة التحرر العربي من جهة، والقوي الرجعية المتخلفة وأخطر هذه القوي الأخيرة هي تلك التي تتستر بالدين وتجده معبرا سهلا للجماهير «فللقوي الثورية حاضرها المستقبلي المتميز عن الحاضر الماضوي للقوي المتخلفة، كما أن لها تراثها المتميز أيضا عن تراث هذه القوي الأخري». نحن مطالبون أن نواصل معركة حسين مروة والطابور الطويل من الشهداء علي الصعد الفكرية والسياسية والنضالية كافة دون هوادة.. وتقول لنا خبرة التاريخ الذي لا يسير في خط صاعد دائما أننا يمكن أن ننتصر في النهاية.