يصدر المفكر السوداني المعروف الدكتور حيدر إبراهيم مدير مركز الدراسات السودانية كتابه الأخير الذي نعرض له هنا مراجعات الإسلاميين السودانيين كسب الدنيا وخسارة الدين لا ليراجع تجربة الإسلاميين في الحكم فقط. وقد فعل ذلك منذ سنوات في كتب صارت مراجع أساسية في نقد وتقييم هذه التجربة المهمة, وإنما يعود هذه المرة ليراجع وينقد ما قدمه كتاب إسلاميون لنقد ومراجعة تجربتهم في الحكم بالسودان, ويأتي ذلك في العام ال22 لحكم الحركة الإسلامية في السودان التي مرت بمراحل وأشكال متعددة, وكانت أول تجربة حكم حركة إسلامية في العالم العربي والعالم الإسلامي السني, وكنا قد سبق أن قدمنا في هذه الصفحة عرضا لإحدي هذه المراجعات المهمة, وهي كتاب المحبوب عبد السلام الحركة الإسلامية السودانية دوائر الضوء وخيوط الظلام. وقد تصدر غلاف الكتاب لوحة للفنان السوداني عثمان وقيع الله كتب عليها الفتنة كما يصف بعض الإسلاميين حالهم بعد الصراع ثم الانقسام الذي حدث داخلهم, ويقرر الدكتور حيدر إبراهيم في مقدمة كتابه أنه يتعاطف مع الإسلاميين علي المستوي الإنساني والوجداني, ولكنه يرفضهم علي المستوي السياسي والوطني, فهم في النهاية في رأيه سودانيون يعيشون مأساة حقيقية, ويراهم الآن أقرب إلي نهايات أبطال شكسبير التراجيدية منهم إلي أن يكونوا أناسا عاديين, بعد أن جردوا السودان من خيراته المادية والروحية علي حد تعبيره. ويتعقب المؤلف في كتابه ما قدمته بعض الرموز الإسلامية في السودان من نقد ومراجعة لتجربتهم في الحكم, ويري أن هذه المراجعات أقرب إلي المراثي والمناحات والبكاء الحزين علي الماضي والندم علي اللبن المسكوب, كما في كتاب المحبوب عبد السلام, أما كتاب عبد الرحيم عمر محيي الدين فيهديه كاتبه إلي شهداء الحركة الإسلامية وآخرين أسماهم الشهداء الأحياء الذين تفرقت بهم السبل السياسية بعد الفتنة, ويقصد بها المفاصلة أو الفراق الذي تم بين شطري الحركة الإسلامية في السودان عام1999 اللذين أصبحا المؤتمر الوطني بقيادة الرئيس السوداني عمر البشير والمؤتمر الشعبي بقيادة الدكتور حسن الترابي. ويقرر الدكتور حيدر إبراهيم ابتداء أن الحركة الإسلامية السودانية جمعت في تنظيمها بين الشمولية والقدسية والقيادة الكاريزمية لذلك وجدت صعوبة في ممارسة النقد والنقد الذاتي, ومن ثم المراجعة. ويقول: إن إحساسا بالتفرد طغي لدي الإسلاميين, وتملكهم إحساس الطليعة المؤمنة, وتسبب هذا في جزء كبير من المكابرة والشعور بالعصمة وامتلاك الحقيقة المطلقة, وهم بعيدون عن مفهوم المؤمن التواب والنواب, ويضيف: أن الإسلاميين في السودان لم يحاولوا تقديم مراجعة مؤسسية, كما فعلت العديد من الحركات, وهو يري أن الحركة الإسلامية السودانية دأبت علي عدم احترام شعبها والشعور بأنها غير مسئولة أمامه, وقد تكرس إحساسها هذا بعد نجاحها في الاستيلاء علي السلطة ونجاحها في تغييب الشعب وصاروا يعتبرون أن السكوت أو الصمت صوتا لصالحهم. ويبحث المؤلف في البداية النقد الذاتي والمراجعات لدي الحركات الإسلامية في العالم العربي, ويري أن عددا من الكتابات الفكرية الفردية فعلت ذلك, ومن بينها الكتابات المهمة للسيد محمد حسين فضل الله, وخالص جلبي ويوسف القرضاوي وفهمي هويدي. ويقول: إن من الأسباب المهمة لفتح باب المراجعات هو الموقف من العنف وتكفير المجتمع والحاكم, لقد قامت مجموعة من الإسلاميين ينتمون لتيارات وتنظيمات متعددة وأقطار مختلفة بكتابة أوراق في النقد الذاتي في مؤلف عنوانه الحركة الإسلامية... رؤية مستقبلية عام 1998 وهي تجربة جديدة ورائدة تحدث لأول مرة, ولذلك كانت ظاهرة مثيرة للجدل والتخوف والتشكك بين الإسلاميين, واضطر محرر الكتاب الدكتور عبد الله النفيسي للإسهاب في مقدمة طويلة تقوم بمهمة الدفاع والتبرير, يحاول فيها التأكيد علي ضرورة النقد الذاتي, وتطمين البعض بأن هذا النقد يمارسه إسلاميون, وبالتالي فهو نقد حميد وليس خبيثا. ويورد المؤلف نماذج عديدة قدمت للنقد الذاتي داخل الحركات الإسلامية في مصر وتونس, وأيضا ما قدمته الجماعة الإسلامية في مصر ثم يعود للسودان مجددا ليقرر أن الحركة الإسلامية به تعاني من مشكلة الخواء الفكري برغم أنها ضمت كثيرا من المتعلمين, وقد غطت بما اعتبرته انتصارات سياسية علي عيوب الكسب الفكري, وينقل عن بهاء الدين حنفي أحد القيادات الإسلامية قوله إن واحدة من مآسي الحركة الإسلامية السودانية أنها لم يكن فيها مجال للفكر, وأن الذين كان يعول عليهم دائما هم من لا علاقة لهم بالفكر, ولا رأي لهم حتي يبدوه في أي موضوع من المواضيع وينقل عن قيادي إسلامي آخر هو أحمد عبد الرحمن قوله وهو يصف ما حدث بعد المفاصلة وغياب الترابي عن القيادة ما نفتقده هو الفكر... نحن الآن نسير بقوة الدفع السابقة... ما ينقصنا هو الرؤية, الترابي فلتة لا تتكرر بسهولة. ويري الدكتور حيدر: إن الخلاف بين شقي الحركة الإسلامية أو ما يطلق عليها المفاصلة لم تكن ترتكز علي أسس فكرية عميقة وواضحة, ويري أن مذكرة العشرة التي قدمتها قيادات إسلامية, وكانت تمهيدا للانقلاب علي الترابي كانت بعيدة عن الفكر, واحتوت علي شعارات عامة. ويتعقب الدكتور حيدر مراجعات الإسلاميين السودانيين واحدا تلو الآخر بالنقد والمراجعة, فهو يري أن الكاتب والمفكر الإسلامي السوداني عبد الوهاب الأفندي, وإن كان أول من أصدر كتابا في التجربة الإسلامية السودانية من الداخل, وظل يعمل بدأب لكي يتسق مع قناعاته الجديدة كديمقراطي, ويركز علي قضيتي التحديث والديمقراطية, إلا أنه يري في ذات الوقت أن هناك مشكلة تلازم أصحاب الأيديولوجيات والعقائد حين يحاولون النقد والمراجعة, فهم يعلنون خروجهم من الحزب أو التنظيم لكي يضفوا علي مواقفهم قدرا من الحياد والموضوعية, ويقول: إنهم قد يخرجون من التنظيم, ولكن التنظيم لا يخرج منهم, خاصة مع التمازج السياسي والفكري وأحيانا الفلسفي داخل المرء, ويضيف: أن المسألة شديدة التعقيد حين يتعلق الأمر بالإسلام الموصوف بالشمول والصلاحية لكل زمان ومكان, ولذلك نجد الأفندي برغم حداثته يستخدم منهج قياس فقهيا في تناول التاريخ. ويعتبر الدكتور حيدر إسلاميا آخر هو التيجاني عبد القادر من الأقلام الرصينة والعميقة التي تناولت نقد الحركة الإسلامية السودانية واعتبرته فرضا عينا, ويلاحظ حيدر أن التيجاني استخدم كثيرا لفظ فتنة في وصف النزاع الذي حدث بين الإسلاميين في السودان, وهو يري أنه برغم رصانته لم تخل كتاباته الأولي من عاطفية التماهي مع الزعم, وبالتالي الانزلاق في اللا موضوعية. ويري المؤلف أن الدكتور غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني يفضل وصفه كمفكر أكثر منه كتنفيذي أو حركي أو مفاوض, لكن الظروف كثيرا ما حرمته من ذلك, وبرغم أنه أسهم مبكرا في عملية المراجعة والنقد, فإن الدكتور حيدر يري الدكتور غازي لايتواني عن توظيف القرآن والتاريخ الإسلامي والتراث بهدف دعم منهجه التبريري, والجميع يلاحظ ماذا فعلت الحركة الإسلامية بالوطن والدولة والإنسان السوداني دون حاجة إلي ذكاء. أما المفكر الإسلامي السوداني الطيب زين العابدين فيراه الدكتور حيدر من العناصر النزيهة والمقتدرة التي أصبحت الحركة الإسلامية بعد تمكينها لا تطيق وجود أمثاله فهمشته, ويقول: إن هذا التهميش منح زين العابدين مساحة أوسع للحركة والحرية, لذا تميزت كتاباته بقدر كبير من النقد والمراجعة. ويري الدكتور حيدر أن جرأة المفكر الإسلامي السوداني حسن مكي هي التي أكسبته اهتماما وموقعا, وكان قلمه قد بدأ مبكرا بالنقد مستهلا ذلك بنقد الترابي نفسه, ولكن الدكتور حيدر يري أن تلك الجرأة جاءت علي حساب العمق والتأمل والتركيز, وأن آراءه كانت أقرب للشطحات والغرائبية والانطباعية والسجالية وردود الفعل الآنية أو أشبه بالمادة الخام التي تقدم مصدرا مهما للكشف عن عيوب وأخطاء الحركة الإسلامية السودانية, لكنها لا تسعف القاريء بنظرية أو مفاهيم جديدة. وفي الفصل الثالث من كتابه الذي حمل عنوان ما بعد الإسلام السياسي يتساءل الدكتور حيدر إبراهيم بعد أن عاش تجربة النظام الإسلامي: هل كان السودان في حاجة إلي حركة إسلامية أيا كان اسمها؟ وماذا أضاف وجود الحركة لتطور السودان السياسي والفكري؟ وهل أسهمت الحركة في نهضة إسلامية, وفي تجديد الفكر الإسلامي؟ وما هو مردود سنوات حكمها علي الوطن والدين أم كان كله مجرد حصاد الهشيم, وقبض الريح؟ وهل أسهمت الحركة الإسلامية في دعم الوحدة الوطنية وتعايش الثقافات أم سارعت بسبب السياسات الخاطئة وغياب الرؤية في انفصال جنوب السودان؟ وهل كان المشروع الحضاري الإسلامي في السودان يستحق أن تبذل من أجله كل هذه الأرواح في الجنوب ودارفور والشرق ومعارضي السدود؟ وأن يهان بسبب كل هؤلاء المواطنين في بيوت الأشباح والمعتقلات؟ ويؤكد الدكتور حيدر التي تحمل تساؤلاته الإجابات في طياتها أن وجود الحركة الإسلامية في السودان لم تكن نتيجة ضرورة تاريخية, ونتيجة تطور طبيعي, فقد كانت اصطناعية ووليدة عملية قيصرية, كما لم تكن نتيجة إصلاح وتجديد قامت به الجماهير مثل المهدية الحركة الإسلامية الأولي التي كانت حركة شعبية قواها الاجماعية هم الفقراء والفلاحون والرعاة وصغار التجار والحرفيون, وهو يري أن الحركة الإسلامية الحالية هي صناعة الصفوة أو الأفندية. هندست في الجامعات والمدارس الثانوية بقصد محاربة الشيوعية, وليس محاربة الفقر والجهل والمرض, وهي شعارات الحركة الوطنية في نفس فترة نشأة الحركة الإسلامية, والتي كانت مشغولة فقط بهزيمة الشيوعيين وإبعادهم من اتحاد الجامعة, ويري الدكتور حيدر أنه يمكن القول بأن الحركة الإسلامية السودانية الحالية هي صناعة مصرية بامتياز, برغم أن الترابي تمرد لاحقا علي التنظيم العالمي للإخوان المسلمين بسبب بطموحه الشخصي, وليس لأي أسباب فكرية أو سياسية. ويرجع الدكتور حيدر سبب سقوط المشروع الحضاري الإسلامي في السودان إلي أن الفكر الإسلامي عموما لا يملك أي نموذج إرشادي مستمد من التاريخ لشكل ومضمون الدولة ويقول: إنه بالرغم من التمجيد لنموذج مجتمع المدينة, فقد عجز الحكام الإسلاميون في السودان عن التأسي بروح ذلك النموذج, إذ ليس المطلوب اتباع مؤسساته وتنظيمه, وأعني بالروح قيم ذلك المجتمع مثل العدالة والمساواة وتكريم الإنسان, وزهد الحاكم وعفته وبعده عن الترف والكبرياء والتكبر, ويضيف: زاد غياب مرجعية تقدم شكلا مفصلا أو تقريبيا لدولة إسلامية تاريخية من صعوبة مهمة التأسيس لدولة إسلامية في نهاية القرن العشرين, مما يجعل الإسلاميين أسري للوعي العربي القديم للدولة والسلطة, ويؤكد أن الحركات الإسلامية تقدم برنامجا غير واقعي, وتعجز عن تأسيس دولة وطنية قوية باعتبارها الوسيلة لتحقيق شروط النهضة, فالدولة الدينية لا تقوم علي حق المواطنة ولا تضم كل المواطنين, بل تقصي كثيرين. وتوصل الدكتور حيدر إلي أن النقاشات والجدل والمراجعات في صفوف الإسلاميين بالسودان هذه الأيام حول تجربتهم يأتي كمحاولة جديدة للتبرير والتفسير والبحث عن كبش فداء من الحركة نفسها واللوم المتبادل دون أن يلمسوا جوهر القضية, ويقول: إن هذه القضية تثار في هذا الوقت بالذات لأن هناك شعورا بغرق الدولة السودانية والحركة الإسلامية أيضا مما أثار المخاوف والهواجس والحرص علي إنقاذ ما يمكن إنقاذه, ويضيف: أن الشعور بقرب الغرق لا يعطي فرصة جيدة لحسن التصرف والتفكير الجيد ويقول: لقد ضاعت الحقيقة في اللوم المتبادل بين الإسلاميين وكأنهم لم يشاركوا جميعا في الانقلاب علي نظام الحكم المنتخب, والحقيقة أن انحراف حكم الإنقاذ الإسلامي ليس بسبب شخصية الترابي أو تغير دور العسكريين, ولكن بسبب الفكرة والمنهج, ويقرر أن الإسلاميين السودانيين جمعوا بين فعل العيب والمكابرة والإصرار علي الخطأ, ولذا عجزوا برغم الكتابات والتبريرات عن تقدم نقد ذاتي صادق, ويقول إنه يجد لهم العذر في صعوبة الإقرار بأن تجربة إسلامية فشلت, فالشيوعي في رأيه يمكن أن ينقد تجربة الاشتراكية, والعروبي يمكن أن ينقد تجارب الوحدة العربية, ولكن الإسلامي يصعب عليه النقد, لأن تجربة فصيل حزبي أو تنظيم سياسي محدد تتماهي لديهم مع الإسلام نفسه, فهم يتحدثون عن الإسلام, وكأنه الجبهة القومية الإسلامية والعكس أيضا, لذلك يعني نقدهم لتجربتهم هو نقد للإسلام, وهذا يستحيل بالتأكيد حسب رؤيتهم, ولن يمكن للإسلاميين السودانيين ممارسة النقد إن لم يفصلوا بين تجربتهم والإسلام, وهذا يحتاج إلي تواضع وصدق قبل أن يحتاج إلي موضوعية وعلمية, ومما يزيد الأمور تعقيدا هو أن الإسلاميين يظنون أن ما يكتبونه نقدا ذاتيا, بينما هو تفسير لصراع سلطة بأثر رجعي, وفي النهاية يدعو المؤلف الإسلاميين في السودان إلي تقديم نقد يطال الفكرة والمنهج, وليس الأشخاص سواء الترابي أو العسكريون أو غيرهم.