في ظلام الليل، أنسحب (نابليون بونابرت) من القاهرة وأخذ معه في عربته التي تجرها الخيول اثنين من قواده قاصدا ميناء دمياط ومنها إلي فرنسا، نظر بحسرة شديدة إلي المكان حوله، وابتلع احزانه الكبيرة، فقد فشل في أن يقهر المصريين في أرضهم وحدث العكس وها هو يرحل تاركا سلفه، ومقررا أن يهادي الأتراك بمصر من جديد انتقاما من بلد لم يهنأ فيه لحظة واحدة، هذا الوصف ليس من عندي ولكنه خلاصة مشهد رائع من مشاهد الحلقة رقم 25 من مسلسل (نابليون والمحروسة) والذي كان أكبر مفاجأت رمضان الفنية هذا العام، فهو مسلسل ينفذ إليك بكل عنصر من عناصره بداية من التتر الذي يعيد إحياء رائعة الشيخ إمام ونجم (مصر يامه يا بهية) بتوزيع موسيقي جديد ويستوحي منها الكثير من المقاطع لتضيف للسرد الدرامي جزء مهم من بهائه، المسلسل يعيد إلي ساحة الكتابة كاتبة شابة مبدعة هي عزة شلبي كاتبة الفيلم المهم (أسرار البنات) للمخرج مجدي أحمد علي، ويضيف إليها كل الوثائق والمعلومات الكاملة لسنوات غزو نابليون وجيشه الفرنسي لمصر (1798-1801) من خلال جهد المحقق التاريخي (حلمي شلبي لتأخذ الأحداث والوقائع والشخصيات التي ابتدعتها عزة من خلال بناء درامي محكم وقريب من البناء الملحمي، تأخذ عمقها الدرامي والفكري وأيضا الفني من خلال إبداع المخرج ش،قي الماجري الذي قدم لنا من قبل أعمال مهمة مثل (الاجتياح) عن العدوان الإسرائيلي علي المخيمات الفلسطينية، و(اسمهان) ثم (هدوء نسبي) عن الحرب الأمريكية علي العراق.. الماجري- التونسي الأصل – مخرج- قادر علي الاضافة إلي النص وعلي خلق الزمن الدرامي واشباعه بكل ما يتطلبه العمل من مفردات، وهنا في (نابليون والمحروسة) نحن أمام القاهرة منذ قرنين من الزمان بكل ملامحها في الشوارع والحارات والبيوت من الخارج والداخل، نحن أمام واحد من الأعمال التي لا تترك مساحة لعدم الاتقان فتخرج المشاهد من الاندماج في العمل، نحن أمام «تفاصيل التفاصيل» عن حياتنا منذ سنوات طويلة، ولكنها فترة مهمة في تاريخنا حين جاءنا الغازي نابليون علي حصانه تسبقه سمعته كقائد عسكري ملهم، ولكن المصريون من اللحظة الأولي، كما يؤكد المسلسل قاوموه في الإسكندرية علي يد الشيخ البكري، ورفضوا أيضا نزول الانجليز لمساعدتهم ضده، ثم امتدت المقاومة إلي المزمع في الشوارع في «ثورة القاهرة الأولي» ضده، وإلي رفض مساعدته برغم كل الإغراءات التي قدمها للناس يطرح المسلسل أيضا حال المصريين بين هروب (مراد بك) كبير المماليك إلي الصعيد، وهروب بقية المماليك لمناوئة نابليون، وهجوم الاتراك، وتعقب الانجليز الذين حلموا بمصر، وأن تكون لهم، بينما حلم نابليون أن تكون درة مستعمرات فرنسا، يطرح المسلسل «حال الناس» في البيوت والشوارع، حيرتهم بين حاكم هارب، وغاز اصبح حاكما، وشيوخ يريدون دائما الحفاظ علي مواقعهم ومصالحهم مع كل حاكم، ويطرح اخلاقيات السوق ، والغلاء وصعوبة الحياة علي الناس العاديون والفقراء، ثم ما فجره الاحتكاك بين المصريين والفرنسيين من شرارات تخص مفاهيم كثيرة، ومنها افكار مختلفة حول المرأة في علاقتها بالحياة وبالرجل ، وهو ما أدي لموت فاجع لأحد بطلات العمل (ورد) التي قتلها زوجها بعد أن علم أنها ذهبت لمصفف شعر بصحبة إحدي المصريات المتزوجة من فرنسي أسلم، وفي هذا العمل الدرامي البديع أيضا نتوقف أمام كثير من مفاهيم الحياة وقيمها من خلال مجموعة مبدعة من كبار الممثلين وشبابهم علي رأسهم ليلي علوي في دور الست نفيسة زوجة مراد بك أو (أم المماليك) وسوسن بدر في دور (الست خديجة) أم علي الحداد (شريف سلامة) وزينب (سهر الصايغ) وحسن (بهاء ثروت) والحاج منصور (صبري عبد المنعم) الذي ربي ابنائه بعد وفاة زوجته ومنهم ورد (أروي جودة)، والحاج مصطفي (سامح الصريطي) وابنه محمود (اشرف مصيلحي) وابنته رقية (فرح يوسف) التي خطف العسكر طفلاها، ومات الأكبر علي يد الفرنسيين بعدما حاول الهرب ليعود إلي احضان امه، للاسف ليس في الامكان ذكر اسماء الكل، وخاصة الفرنسيين الذين قام بأدوارهم ممثلون من فرنسا ومن تونس وسوريا، ولكن بينهم الممثل الكبير جهاد عقل الذي قام بدور (دينون) الفرنسي الرسام الذي جاء ليسجل مصر بريشته، وايضا سيف عبد الرحمن (مراد بك) واحمد ماهر (الشيخ الشرقاوي) وغيرهم.. ولأنه لا يوجد سبب واحد لأن ينزل المسلسل عن مستواه في الحلقات الخمس الباقية له، فإنه يستحق بجدارة أن يكون مسلسل عام 2012، ولابد هنا من الاشارة إلي أنه ليس انتاجا مصريا وانما مشتركا بين شركة خليجية وأخري سورية، وربما كانت هذه الحقيقة هي المفاجأة الأهم والتي تجعلنا نعيد قراءة سجلات العملية الانتاجية الفنية الدائرة منذ نصف قرن، لنكتشف أن هناك من يرانا افضل مما نري انفسنا ومن يثق بنا، أكثر مما نثق بأنفسنا.