دفاعاً عن «الليالي» رغم التعديل القانوني الذي أدخلته الحكومة المصرية وألغت بمقتضاه حق الأفراد في تحريك قضايا الحسبة منذ عام 1995 وقصرت هذا الحق علي النيابة العامة فمازال هناك أفراد يحركون قضايا حسبة ويقبلها القضاء. كان الإلغاء قد جاء في حالة حماس وحرج إثر فضيحة مدوية سنة 1995 حين قضت محكمة بتطليق الدكتورة «ابتهال يونس» من زوجها الدكتور نصر حامد أبوزيد بدعوي أنه مرتد، وكان الحكم مترتبا علي قضية حسبة حركها تكفيريون وظلاميون ضد حرية الفكر وحق النقد والمساءلة. لكن الإدارة المصرية آثرت أن يبقي السيف مسلطا علي رقاب المثقفين والمبدعين وحرياتهم فاختصت النيابة وحدها بتحريك مثل هذه الدعاوي حتي لا يظن المثقفون والمبدعون أنهم باتوا في مأمن، ورغم ذلك ماتزال النيابة تقبل قضايا الحسبة من الأفراد ضاربة عرض الحائط بالتعديل القانوني متجاهلة أيضا كل ما يترتب علي مثل هذه القضايا من فضائح وممارسات معادية لحرية الفكر والتعبير. ومرة أخري خلال ربع قرن يحرك البعض قضية ضد نشر ألف ليلة وليلة وهي هذه المرة موجهة ضد هيئة قصور الثقافة ورئيسها الدكتور «أحمد مجاهد» والمسئولين عن سلسلة «الذخائر» لأنهم أعادوا نشر «ألف ليلة وليلة» والتي هي كتاب العرب الفريد الذي يقرأه العالم منذ مئات السنين ومايزال حتي الآن يترجم إلي لغات عديدة، وقد دخل في التراث العالمي كإبداع عربي وعلامة من علامات ثقافتنا، وقدرتها الفائقة علي التفاعل والتلاقح مع ثقافات الهند وفارس واليونان وبيزنطة. وكانت الليالي ولاتزال موضوعا للدرس الأكاديمي من جامعات العالم كافة وكتبت عنها الأستاذة الناقدة الراحلة سهير القلماوي رسالتها للدكتوراة تحت إشراف طه حسين ومن معطف الليالي الواسع خرجت أشكال التجديد في السرد الروائي والقص، وكانت حكاياتها ولاتزال كنزا لا يفني لأدب الأطفال وللأدب الخيالي عامة، وإذ السحر صنو للفن الجميل بل إن «الليالي» تنطوي علي حكمة السنين وتستخلص حكاياتها العبر من صروف الزمان والإنسان والجان وإذ الثراء فيها بلا حد، وفيها إدانة أخلاقية وإنسانية دافعة لكل أشكال التسلط والعبودية وإعلاء لشأن قدرات المرأة بذكائها وخيالها علي الانفلات من أسر الأبدية الخانقة. ويظن هؤلاء المتطاولون علي ما في تراثنا من جمال وحكمة أن كلمة عابرة هنا أو واقعة جنسية مكشوفة جاءت في سياقها هناك تهدر القيمة العليا لهذا الكتاب، وتجعل منهم أوصياء علي عقول وقلوب القراء كأنما هؤلاء القراء هم مجموعة من الأطفال تجوز الوصاية عليهم وتأديبهم وتعليمهم حسن السلوك. ويتماهي هؤلاء الأوصياء الجدد مع حكام أدمنوا فرض الوصاية الأبوية علي شعوبهم وتقييد حرياتهم وإفقارهم ماديا ومعنويا وتوسيع دائرة المسكوت عنه في دعوة للتواطؤ والنفاق. وينتمي هؤلاء الأوصياء فكريا وروحيا للجماعات التي تسعي لإقامة دولة دينية ديدنها قمع الحريات العامة باسم الدين، ومراقبة سلوك البشر وما يقرأون وما يتذوقون مع سلسلة من الوصايا والنواهي والمحرمات تحول حياتهم إلي جحيم علي الأرض، وتقتل فيهم ملكات الإبداع والنقد وتصادر علي البحث العلمي الذي لسنا بحاجة إليه لأن كل ما نبتغيه قد وجد فعلا بعد أن سخر الله سبحانه لنا قوما ينتجون لنا العلم وتطبيقاته لكي ننعم نحن به علي حد قول أحد الشيوخ وما ذلك إلا لأننا مسلمون، وهو ما يعني أننا بحكم إسلامنا معفيون من إنتاج الحضارة، بل إن ما أنتجناه منها سابقا مثل «الليالي» نعيد فحصه بعيون كليلة وأرواح معتمة وقلوب فظة وعقول جري إغلاقها دون الهواء والنور، وحيث تتم في الخفاء عمليات «تطهير» إجرامية لا لكتب التراث فحسب وإنما حتي للأعمال الروائية المعاصرة. وتدعونا هذه الخطوة الجديدة إلي مواصلة الكفاح ضد الظلام علي جبهتين، أولا دعوة القضاء لعدم قبول قضايا الحسبة مع إلغاء حق النيابة وحدها في تقديمها حتي نغلق هذا الباب نهائيا ونعلي من شأن الدستور الذي يصون حرية التعبير والإبداع والفكر. ثانيا أن يتكاتف المثقفون من كل المنابع في إطار منظماتهم النقابية للدفاع عن «الليالي» باعتبارها جزءا من الذاكرة القومية تفخر به أي أمة مهما كان عنف المناوئين للحرية ولحق الجمهور في المعرفة والتذوق.