تحت رعاية الصين، بالعاصمة بكين، توصلت المتنافستان الإقليميتان في الشرق الأوسط, إيران والمملكة العربية السعودية, إلى اتفاق لاستعادة العلاقات الدبلوماسية، بعد انقطاع دام سبع سنوات. يمكن النظر إلى الصفقة في بُعدها الإستراتيجي, حيث تعكس التغييرات الرئيسية الجارية في الشرق الأوسط والعالم. على صعيد آخر من الممكن أن يصفها البعض بأنها مجرد "اتفاق هدنة" بين خصمين مهمين، من شأنه أن يوفر مساحة قيمة للاتصالات المباشرة والمنتظمة. حمل البيان الصيني السعودي الإيراني المشترك الجمعة الماضية تداعيات قوية تتجاوز الإعلان عن استعادة العلاقات الدبلوماسية بين طهرانوالرياض، التي قُطعت منذ عام 2016. تضمن البيان النقاط الرئيسية التالية: – إعادة فتح سفارتي المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية في أقل من شهرين. -احترام سيادة الدولتين. -تفعيل اتفاقية التعاون الأمني بين السعودية وإيران الموقعة عام 2001. -تفعيل اتفاقية التعاون في القطاعات الاقتصادية والتجارية والاستثمارية والتقنية والعلمية والثقافية والرياضية والشبابية الموقعة بين الطرفين عام 1998. -حث الدول الثلاث على بذل كل الجهود لتعزيز السلم والأمن الإقليميين والدوليين. للوهلة الأولى، تشير البنود الأربعة الأولى إلى أن الصفقة التي توسطت فيها الصين هي في الأساس اتفاق يقوم على إصلاح للعلاقات الدبلوماسية بين الخصمين القدامى. لكن عمليا، فإن الفقرة الخامسة بعيدة كل البعد عن النص القياسي المدرج في البيانات المشتركة بين الدول. يبدو أنه يؤسس لمرجع جديد للصراعات في الشرق الأوسط، حيث تلعب الصين دور "صانع السلام" بالشراكة مع إيران والمملكة العربية السعودية- تلعب بكين دورا في مختلف النزاعات الإقليمية وتؤثر على الأطراف المعنية, بموافقة هذه الأطراف. تمهيد صينى ذكرت جريدة "ذا كرادل" الناطقة بالإنجليزية أن الرئيس الصيني شي جين بينغ لم يكتف فقط برعاية وتأطير صفقة بين طهرانوالرياض. في الحقيقة، مهد شي شخصيا الطريق أمام تحقيق هذا الاتفاق. وتعمق رئيس الدولة الصينية في تفاصيل الاتفاق منذ زيارته للسعودية في ديسمبر 2022، ثم لاحقا، خلال زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى بكين في منتصف فبراير 2023. وعُقدت أكثر من جولة من المفاوضات برعاية صينية، انتهى خلالها الإيرانيون والسعوديون من التفاصيل محل التفاوض بينهما في العراق وعمان، خلال جولات سابقة من المحادثات. لم يكن من المؤكد لدى الجميع بأي حال من الأحوال أن يتوصل الجانبان إلى اتفاق في الجولة الأخيرة من المناقشات (6-10 مارس 2023), لكن الممثل الصيني تمكن من التغلب على جميع العقبات بين الوفدين، وبعد ذلك حصل الطرفان على موافقة من قيادتيهما للإعلان عن الصفقة يوم الجمعة. الصين كضامن إقليمي في اليومين الماضيين، كُتب الكثير عن الآثار الاستراتيجية لاتفاق سعودي-إيراني بوساطة صينية في علاقته بدور الصين الدولي على حساب الولاياتالمتحدة. الخليج العربي منطقة ذات أهمية استراتيجية لكلتا القوتين (الولاياتالمتحدةوالصين)، والمصدر الرئيسي لإمدادات الطاقة بالنسبة للصين. لكن الأمر المؤكد أن واشنطن لم تكن قادرة على تحقيق نفس الإنجاز، التي لطالما اعتبرت نفسها "الضامن الأمني" للمنطقة في مواجهة الدول الخارجة عن النظام الدولي من وجهة نظرها. يعتقد كثير من الخبراء أن العنصر الأهم في هذا الاتفاق هو الدور الصيني فيه, حيث لم تكن الصين مجرد راعٍ لمحادثات أو صديق مشترك للدولتين المتصارعتين, فالصين تظهر في هذا المشهد كطرف فاعل يقدم الضمانات للطرفين ويلتزم بالتعهدات التي تقدمها الدول الكبرى. ومما لا شك فيه أن الكثير سيقال عن "المغامرة الاستراتيجية" لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واستغلاله للتغيرات العالمية لتعويض تراجع النفوذ الإقليمي للولايات المتحدة. إن صعود نظام متعدد الأقطاب في فترة ما بعد الولاياتالمتحدة يسمح لحلفاء الولاياتالمتحدة التقليديين ببعض المساحة لاستكشاف خياراتهم الدولية بعيدًا عن واشنطن، وفي خدمة مصالحهم الوطنية المباشرة. ركائز أساسية ترتبط مصالح المملكة العربية السعودية الحالية بالأهداف السياسية والاقتصادية والمالية والثقافية الطموحة التي وضعها محمد بن سلمان لبلاده، والتي تقوم على ركيزتين: -تنويع الشراكات الإقليمية والعالمية من أجل التكيف مع التغيرات المنهجية العالمية التي ستساعد على تحقيق خطط الرياض الكبرى. -ترسيخ الاستقرار الأمني والسياسي للسماح للمملكة العربية السعودية بتنفيذ مشاريعها الكبرى، وخاصة تلك التي وردت في "رؤية 2030" التي تُصور الرياض من خلالها كحاضنة إقليمية للتمويل والأعمال والإعلام وصناعة الترفيه – على غرار الدور الذي لعبته الإمارات العربية المتحدة في العقود الماضية، أو بيروت قبل الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1975. تعهدات لم يُعلن عنها وباختصار، فإن الأمن والاستقرار الإقليميين والمحليين أمران حيويان للرياض لكي تتمكن من تنفيذ أهدافها الاستراتيجية. على هذا النحو، تم إدراج بنود سرية في اتفاق بكين لطمأنة إيران والمملكة العربية السعودية بأن الضرورات الأمنية سيتم الوفاء بها, وقُدمت بعض تفاصيل هذه البنود إلى بعض الصحف الأجنبية غير الغربية, منها جريدة جلوبال تايمز الصينية وجريدة ذا كرادل الناطقة بالإنجليزية: -تتعهد كل من المملكة العربية السعودية وجمهورية إيران الإسلامية بعدم الانخراط في أي نشاط يزعزع استقرار أي من الدولتين، على المستوى الأمني أو العسكري أو الإعلامي. -تتعهد المملكة العربية السعودية بعدم تمويل وسائل الإعلام التي تسعى إلى زعزعة استقرار إيران. -تتعهد المملكة العربية السعودية بعدم تمويل المنظمات التي تصنفها إيران كمنظمات إرهابية، مثل منظمة مجاهدي خلق الشعبية، أو الجماعات الكردية المتمركزة في العراق، أو المسلحين الذين يعملون خارج باكستان. -تتعهد إيران بضمان ألا تنتهك المنظمات المتحالفة معها الأراضي السعودية من داخل الأراضي العراقية. خلال المفاوضات، كانت هناك مناقشات حول استهداف منشآت أرامكو في المملكة العربية السعودية في سبتمبر 2019، وضمان إيران بأن منظمة حليفة لن تنفذ ضربة مماثلة من الأراضي العربية. -وستسعى كل من المملكة العربية السعودية وإيران إلى بذل كل الجهود الممكنة لحل النزاعات في المنطقة، وخاصة الصراع في اليمن، من أجل ضمان حل سياسي يضمن السلام الدائم في ذلك البلد. اليمن دون تفاصيل ويقول الكاتب والأكاديمي الصيني شون هيتون من جامعة شنغهاي, إنه لم يتم الاتفاق على تفاصيل حول الصراع في اليمن, بعد أن أُحرز تقدم كبير في المحادثات المباشرة بين الرياض وحركة أنصار الله اليمنية في يناير. وقد أدى ذلك إلى تفاهمات كبيرة بين الدولتين المتصارعتين. في بكين، اتفق الإيرانيون والسعوديون على المساعدة في دفع القرارات التي تم التوصل إليها بالفعل بين الرياض وصنعاء، والبناء عليها لإنهاء الحرب المستمرة منذ سبع سنوات. وبالتالي، وعلى الرغم من أن بيان بكين يتناول في المقام الأول القضايا المتعلقة بالتقارب الدبلوماسي، يبدو أن التفاهمات الإيرانية السعودية قد دارت بشكل أساسي حول المتطلبات الأمنية. من المرجح أن يدعي مؤيدو كل جانب أن بلادهم حصلت على اليد العليا في الاتفاقية، لكن نظرة أعمق تظهر توازنا صحيا في شروط الصفقة، حيث يتلقى كل طرف تأكيدات بأن الطرف الآخر لن يعبث بأمنه. في حين أن إيران لم تعلن أبدا عن رغبتها في تقويض أمن المملكة العربية السعودية، إلا أن بعض حلفائها الإقليميين لم يخفوا نواياهم في هذا الصدد. بالإضافة إلى ذلك، أعلن محمد بن سلمان عن نيته خوض المعركة داخل إيران، وهو ما قامت به أجهزة المخابرات السعودية في السنوات الأخيرة، تحديدا من خلال دعم وتمويل المنظمات المنشقة والانفصالية المسلحة التي تصنفها إيران كجماعات إرهابية. كان من السهل تحديد الأولويات الأمنية لهذا الاتفاق في بكين الأسبوع الماضي, أُبرمت الصفقة بين مجلسي الأمن القومي في المملكة العربية السعودية وإيران، وشملت مشاركة أجهزة المخابرات من كلا البلدين, وحضر الوفد الإيراني ضباط من الاستخبارات الإيرانية ومن الأجهزة الاستخباراتية التابعة للحرس الثوري الإيراني. إسرائيل أخر من يعلم وفي ملاحظة منفصلة تتعلق بالأمن الإقليمي- ولكنها ليست جزءا من اتفاقية بكين – أكدت المصادر المشاركة في المفاوضات أنه خلال المحادثات، شدد الوفد السعودي على التزام الرياض بمبادرة السلام العربية لعام 2002؛ التي تقوم على رفض التطبيع مع تل أبيب قبل إقامة دولة فلسطينية مستقلة، وعاصمتها القدس. ولعل أكثر ما يلفت النظر، ويوضح عزم الأطراف على إبرام صفقة دون تأثير المفسدين، هو أن وفدي الاستخبارات الإيرانية والسعودية التقيا في العاصمة الصينية لمدة خمسة أيام دون أن تكون المخابرات الإسرائيلية على علم بذلك. وهو ما يمكن اعتباره بمثابة شهادة أخرى على أن الصين — على عكس الولاياتالمتحدة — تعرف كيف تبرم الصفقات في هذه الظروف المتغيرة. وقد جاء رد الفعل الإسرائيلي تجاه الصفقة مؤكدًا ذلك, حين خرجت أصوات من الكنيست الإسرائيلي تصف الاتفاقية بأنها " صفعة في وجه إسرائيل".