هل هي جائزة تقدير لمبدع كبير أم تحية لنوعية السينما التي قدمها ؟ أم اعتزاز بفن السينما نفسه ؟أتحدث عن. جائزة النيل التي نالها مؤخرا المخرج القدير داوود عبد السيد، والذي أثار عاصفة من الحزن والغضب في نهاية العام الماضي حينما اعلن اعتزاله، وتوقفه عن إخراج الافلام السينمائية بعد تسعة افلام روائية طويلة قدمها منذ 1985، بدءا بفيلم (الصعاليك ) ، وحتي فيلم(قدرات غير عادية ) عام 2014 ، وبين هذه السنوات المديدة رأينا له (البحث عن سيد مرزوق )، و( الكيت كات ) ،و(ارض الاحلام ) ،و(ارض الخوف ) ،و(مواطن ومخبر وحرامي ) ، (رسائل البحر )، وكل فيلم منها يقول الكثير عن الحياة والناس من خلال القصص التي حكاها، والشخصيات التي روي قصصها وازماتها، والاشتباك المستمر بين الانسان والآخر ،سواء كان الآخر انسانا له ملامح فكرية مختلفة وقناعات اخري، أو كان مؤسسة ،او نظام ، ،وكان داوود عبد السيد دائما وراء قناعاته الشخصية منذ بدأ حياته وحلمه العمل بالصحافة والتواصل مع الناس، وتحول عن هذا الحلم حين شارك شابا من أقربائه في تجربة سينمائية فدخل معهد السينما، وتخرج منه وبدأ يخرج الافلام التسجيلية بعدما عين في (المركز القومي للسينما ) وكان شديد الاهتمام منذ البداية بكتابة الفيلم، وقبل هذا باختيار الفكرة ، ومن هنا كان اول افلامه التسجيلية عن التعليم واحواله في ريف مصر وهو فيلم (وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم )عام1976، وبعده قدم فيلمين آخرين هما (العمل في الحقل ) و( عن الناس والانبياء والفنانين )، وكانت قضية التواصل مع الناس هي السبب في تركه الفيلم التسجيلي القصير بعد ان وجد ان التواصل مفقود، وان دور العرض السينمائي في مصر لم تعد تقدم الافلام القصيرة للجمهور قبل الفيلم الروائي الطويل (كما كان الامر قبل هذا الزمن وهو ما اتاح فرصا كبيرة لصناع الافلام التسجيلية لوصولهم لجمهور عريض ) . مخرج الكيت كات ترك الباحث عن الحوار مع الناس السينما التسجيلية وقرر ان يذهب للسينما التي يفضلونها ،الروائية الطويلة ، وبدأ كغيره،مساعد مخرج ،وشارك مع ثلاثة مخرجين في اخراج فيلم لكل منهم ،كان اهمهم فيلم (الارض)مع يوسف شاهين ، لكنه شعر بالرغبة في التوقف، وهو يريد التعبير عن نفسه وليس عن قضايا الغير، وهنا بدأ التحدي الاكبر له ،وهو اختيار القصة من بين القصص التي كتبها، وكتابة السيناريو لها، والبحث عن منتج ،وكانت قصة بعنوان (كفاح رجال الاعمال ) وجد لها منتج ووقع معه بالفعل عام 1980،لكن ظروف اوقفت الانتاج ،بعدها اختار قصة اخري هي (الصعاليك ) ربما كانت الوجه الآخر لكفاح رجال الاعمال، فبطلاها يصبحان أثرياء، ومن رجال الاعمال بفضل السرقة والاعمال غير المشروعة في زمن الانفتاح ،نجح الفيلم (عام 1985) من خلال الجمهور، وهو ما شجعه علي المضي في تقديم فيلم ثان ،مختلف،هو (البحث عن سيد مرزوق )جمع فيه بين الهواجس الانسانية والشخصية لمواطن بسيط يريد التعرف علي ذاته من خلال الآخرين ، وكان البطل ايضا هو نور الشريف ،لكنه فشل جماهيريا، وبعده غير المخرج في قواعد عمله التي لا تفصل بين الكتابة والاخراج ،وذهب الي رواية اعجبته للكاتب ابراهيم اصلان هي (مالك الحزين ) وقرر تقديمها في فيلم بعنوان (الكيت كات ) وبطله الشيخ حسني الضرير، والذي يتحدي الحياة ويعيش كأي مبصر يفعل ما يريد ،حتي لو ركوب موتوسيكل يطير به الي المجهول، ونجح الفيلم نجاحا خارقا ، وفي نفس الاتجاه، يكمل داوود عبد السيد رحلته مع الكتابة، فيخرج قصة وسيناريو وحوار لكاتب آخر هو (هاني فوزي )عن امرأة مطلوب منها الهجرة لامريكا لتلحق بأولادها علي غير رغبتها، وهو فيلم (أرض الاحلام ) آخر افلام فاتن حمامة امام يحيي الفخراني ، وبعده يعود المخرج الي قواعده الاولي ، كاتبا لاعماله اولا،ليقدم ثلاث روائع متتالية (أرض الخوف ) وقصة ضابط شرطة تداخل مع عصابة مخدرات بأوامر من رؤوسائه للوصول اليهم، وفيلم (مواطن ومخبر وحرامي ) الفيلم الوحيد الذي استطاعت السينما فيه استخدام قدرات شعبان عبد الرحيم كمغن شعبي في اطار درامي وفكري جمع بين اعلي درجات السخرية والواقعية مع بطلي الفيلم الآخرين (صلاح عبد الله وخالد ابو النجا)، ثم فيلم متفرد (رسايل البحر )بما يقدمه عبر سيناريو يعلو من خلال شظايا العلاقات والسلوكيات المتغيرة والمتأزمة في حياة شاب يعيش حياة صعبة تصل به الي أزمة وجودية كبيرة ، أخيرا ،،فإن لداوود عبد السيد الحق في الغضب من احوال السينما المصرية ،. ولكن ليس لديه الحق في الاعتزال طالما لازالت لديه قصص مكتوبة ولم يروها لنا بأسلوبه السينمائي ،وإذا كان الجمهور الان في رأيه يفضل افلام التسلية ، فإنه ايضا من قال ان جمهور الشباب هو الاكثر بحثا عن افلامه علي المواقع الالكترونية ،اما حديثه عن التليفزيون المصري بقنواته المختلفة ،وعدم عرضه لأعماله في المطلق فمعه كل الحق في هذا ،فالتليفزيون يقتل السينما الان ،الا بعض الافلام التي يعرضها سدا لفراغ اوقات الاجازات ،اما اسئلته عن الانتاج فهذه هي القضية الاساسية ،فالسينما والفن المصري لن يزدهرا الا بدعم الدولة لانتاج الاعمال المختلفة ،التي تقدم القيمة والفن معا ،والا بعمل كل الاجيال وليس جيل واحد فقط ،،تحية لهذا السينمائي المبدع ،ولكل امثاله من المبدعين الذين يعتقدون ان الزمن ،والجمهور تخطاهم فأعمالهم هي من تعطي لهذا الزمن اهميته.