*بقلم د. هدي أبورميلة أستاذ الاقتصاد العام -جامعة الأهرام الكندية في أعقاب الركود الحاد الذي عاني منه الاقتصاد العالمي والمحلي منذ بداية عام 2019 إلي أواخر 2021 إثر جائحة كوفيد وتبعاتها التي أثرت بشكل كبير علي متوسطي ومحدودي الدخل في جميع أنحاء العالم، وما لبث العالم يستشعر بوادر تعافي حتي فوجيء بتأجج التوترات الجيوسياسية بين الناتو وروسيا على طول الحدود الأوكرانية، والتي تنذر بمخاطر اقتصادية ثقيلة العبء علي ذات الطبقة بشكل أكبر. وتتشعب التداعيات الخطيرة المحتملة للصراع الروسي الأوكراني إلي جميع جوانب الاقتصاد المصري وعلاقته بالاقتصاد الدولي وامتداد تأثيرها علي السلام والاستقرار الاجتماعي الناتج من تأثيرها علي طبقة متوسطي ومحدودي الدخل والفقراء بشكل خاص. وتتلخص تلك التداعيات في ثلاث فواتير فورية مفاجئة أمام الحكومة المصرية: 1-ارتفاع معدلات التضخم العام وانخفاض القوى الشرائية للحنيه المصري، فطبقا لبيانات الجهاز المركزي المصري للتعبئة العامة والإحصاء، ارتفع تضخم أسعار المستهلكين بالمدن إلى 7.3% في يناير من 5.9% في ديسمبر. وترجع أسباب هذا الصعود إلى ارتفاع أسعار مجموعة السكر والأغذية السكرية بنسبة 14.7%، ومجموعة الخضر بنسبة 4.3%، مجموعة الألبان والجبن والبيض بنسبة 2.5%، ومجموعة اللحوم والدواجن بنسبة 2.3%، ومجموعة الحبوب والخبز بنسبة 2%، ومجموعة الزيوت والدهون بنسبة 0.5%. وكذالك مجموعة الإيجار المحتسب للمسكن فقد ارتفعت بنسبة 0.5%، ومجموعة الكهرباء والغاز ومواد الوقود الأخرى بنسبة 0.2%، ومجموعة السلع والخدمات المستخدمة في صيانة المنزل بنسبة 0.6%، ومجموعة خدمات مرضى العيادات الخارجية بنسبة 1.1%، ومجموعة خدمات المستشفيات بنسبة 0.5%، ومجموعة المنتجات والأجهزة والمعدات الطبية. ومن المتوقع في ضوء التوترات المتصاعدة على حدود روسياوأوكرانيا زيادة معدلات التضخم العام، حيث تمثل الدولتان ثلث صادرات العالم من القمح والذي يذهب الكثير منه للشرق الأوسط، وتحتل روسيا المركز الأول على صعيد تصدير القمح إلى مصر، وتأتي أوكرانيا في المركز الثاني، وفقا لبيانات المجلس الدولي للحبوب. تمثل روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم. وتمثل أوكرانيا ثالث أكبر مصدر للذرة في العالم، ورابع أكبر مصدر للقمح. وتمثّل أوكرانيا 12% من صادرات القمح العالمية، و16% للذرة، و18% للشعير، و19% لبذور اللفت. والشهر الماضي، دفعت بالفعل بدايات التوترات بين البلدين العقود الآجلة للقمح المتداولة في شيكاغو إلى الارتفاع بأكثر من 7%. وفي حالة التوغل العسكري الروسي في أوكرانيا والعقوبات الغربية علي روسيا سيحجم هذا من تدفق الصادرات الروسية وذلك يمثل أسوأ سيناريو عالمي حيث سيحرم الأسواق العالمية من ثلث إمداداتها من القمح مما سينعكس بشكل خطير على أسعار الخبز كغذاء أساسي للفقراء. وفي الوضع الحالي فإن هناك احتمالا أن تحجم كل من روسياوأوكرانيا عن تصدير جزء من حصة القمح تحسّبًا لاحتمالية نشوب حرب على خلفية الأزمة الراهنة"، والجدير بالذكر مؤخرا ارتفاع أسعار الخبز 30% تقريبًا في روسيا. وهذا الوضع يثير القلق الشديد في تأثيره علي الطبقات المتوسطي والدنيا بمصر حيث تداعيات الارتفاع في أسعار السلع الغذائية مخيفة للغاية، وطبقا للنمط الاستهلاكي لتلك الفئات الداخلية الذي يعتمد أساسا علي الحبوب والزيوت مما سيعكس حالة من عدم المساواة في تأثير ذالك التضخم الذي يتضرر فيه الأشد فقراً من ارتفاع أسعار الضروريات التي تمثل الجزء الأعظم من إنفاقه. والجدير بالذكر الإشارة إلي مخاطر تولد نوع من التضخم يطلق عليه "التضخم غير المنضبط" والناتج من مساهمة أنشطة المضاربات والأسواق السوداء إلي الأسباب التقنية الدافعة إلى التضخم مثل ارتفاع التكلفة الوارد ذكره وتلك الأنشطة لا تزيد فقط التضخم اشتعالا بل تؤدي إلي انخفاض القوي الشرائية للجنيه بشكل متسارع، وتتسبب في وقوع الفقراء في" مصيدة الفقر" والتي تؤول إلي توريث حالة الفقر للأجيال القادمة، حيث أن ارتفاع معدلات التضخم الخاصة بتلك الفئات الدخلية يؤثر علي الإنفاق علي التعليم والصحة ودرجة الأمان الغذائي من خلال التأثير على كمية ونوعية الغذاء والسعرات الحرارية ومدى تنوع الحمية الغذائية، ما يترتب عليه اضطرار تلك الأسر الأحجام علي التعليم الأساسي وبالتالي ارتفاع الأمية وافتقاد الأجيال القادمة إلي المهارات والمعرفة اللازمة للدخول إلي سوق العمل الإنتاجي وكذالك انخفاض درجة الأمان الغذائي واللجوء إلى تناول أغذية منخفضة الجودة مما قد يؤثر على النمو المعرفي والصحة النفسية والجسدية لتلك الأجيال. قبل أزمة روسياوأوكرانيا يبلغ دعم الخبز والتموين بالموازنة العامة للدولة للعام المالي الحالى 87 مليار جنيه، فيما تبلغ اعتمادات الدعم والمنح والمزايا الاجتماعية بالموازنة نحو 323 مليار جنيه، ومن المتوقع ارتفاع دعم الخبز والتموين، مدفوعا بارتفاع تكلفة استيراد الحبوب والزيت مما يشكل عبئا إضافيا علي مخصصات الإنفاق الحكومي. 2-نقص المواد الخام وارتفاع تكاليف ومدخلات الإنتاج الأساسية سيساهم في اشتعال الموجة التضخمية، وقد ارتفعت بالفعل أسعار النفط والغاز والذهب والنيكل والصلب، وبالنسبة إلى النفط مستمر في الارتفاع، حيث اخترق سعر 100 دولار للبرميل (الذى يبلغ الآن 102.46 دولار)، وهو ما يمثل قفزة بنسبة 5.6%. وكذالك أسعار الغاز في سوق أمستردام،. حيث بمجرد بدء الحرب في أوكرانيا، ووقف 35% من الغاز الطبيعي القادم من روسيا، وارتفاع أسعاره في أوروبا بأكملها، ارتفعت العقود الآجلة إلى 41% كحد أقصى، إلى 125 يورو لكل ميجاوات ساعة. كما سجلت أسعارا قياسية للذهب، الذي تعد روسيا ثالث منتج له، والذي بلغ أعلى مستوى له في 13 شهرا، حيث بلغ سعره 1948 دولارا للأوقية، بزيادة قدرها 2.5%. روسيا هي أيضا ثالث أكبر منتج للنيكل في العالم، وتستخدم أساسا لبناء بطاريات السيارات، والتي وصل سعرها إلى 25،055 دولار للطن الواحد، وهو الرقم القياسي في السنوات العشر الماضية. وأخيرًا، يقفز الألومونيوم إلى الأمام، والذي يتجاوز الرقم القياسي لعام 2008، حيث تجاوز 3,399 دولار للطن وارتفاع السعر العالمي للبترول والغاز، سيشكل عبئا إضافيا علي مخصصات الإنفاق الحكومي والموازنة العامة للدولة، حيث تجاوز سعر البرميل عالميا 100 دولار، بينما مقدر له في الموازنة الحالية 60 دولارًا، 3- ارتفاع تكلفة فوائد الدين الخارجي والداخلي تعاني الموازنة العامة من فجوة تمويلية تقدر ب64 مليار دولار ورغم نجاح الحكومة المصرية بالوفاء بما عليها من التزامات واستحقاقات في مواعيدها إلا أن اشتعال التوترات الجيوسياسية سيؤدي إلي اللجوء إلي الاقتراض لسد العجز الناتج من ارتفاع مخصصات الإنفاق العام والناتج من ارتفاع تكلفة الإنتاج اللازمة لاكتمال المشروعات القومية والبنية التحتية، وكذالك ارتفاع مخصصات الدعم الناتج من ارتفاع فاتورة الغذاء المستورد من الحبوب وارتفاع الأسعار العالمية مما سيمثل تحدياً كبيراً أمام الموازنة العامة للدولة. والجدير بالذكر أن معدلات الدين الخارجي تجاوزت 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في السنتين الماليتين 2021 و2022، والتي تعود إلى جائحة كورونا التي جعلت الأسواق الناشئة كافة تتجه لزيادة الاستدانة، وفى ضوء إمكانية حدوث ارتفاع حاد في تكاليف التمويل الناتج من ارتفاع سعر الفائدة عالميا سيؤدي ذالك إلي ارتفاع تكلفة فوائد الدين الخارجي، كما أن مدفوعات الفائدة حاليا تشكل 46 في المائة من إيرادات الموازنة ونحو 9 في المائة من إجمالي الناتج المحلي خلال العام المالي الحالي، والارتفاع المتوقع لخدمة الدين من المحتمل أن يعرض الاقتصاد المصري لصدمات تمويلية.