*بقلم د. نبيل رشوان د. نبيل رشوان للحظة الأخيرة لم أتوقع أن تقوم روسيا بأي عمليات عسكرية فى أوكرانيا، لعدة أسباب أولها العلاقات الوثيقة بين الشعبين الروسى والأوكراني على مدى التاريخ، ولن أذهب بعيداً فأوكرانيا هي شريكة روسيا من خلال الاتحاد السوفيتى الذى انتصر على ألمانيا الفاشية، وهى ثانى دولة بعد روسيا تحملت الجزء الأكبر من الضحايا فى تلك الحرب، ثانياً كانت الإعلانات والتصريحات الغربية بفرض عقوبات على روسيا ستضر باقتصادها وكنت أتوقع حتى إن قررت روسيا القيام بعملية عسكرية فعليها أن تتمهل لإقناع الأوروبيين والأمريكيين بمحدوديتها وإمكان السيطرة عليها، أما الأمر الثالث فهو إنسانى بحت ومتمثل فى الروابط الاجتماعية بين الشعبين، حيث يعيش على جانبى الحدود أقارب وأصدقاء لبعضهم البعض، لدرجة أنك لا تستطيع تمييز الروسى عن الأوكرانى إلا فى بسيط اللهجة. أسباب وأهداف أما وقد اندلعت الحرب، وما زالت مستمرة، والرئيس بوتين وضع لها الأهداف التى سيكون عليه تحقيقها من خلالها، فإنني سأتحدث عنها، من حيث الأسباب والأهداف المزمع تحقيقها منها لروسيا، أولاً أسباب الحرب هى: 1 سعى أوكرانيا الانضمام لحلف الناتو، وهو ما يمثل خطرا على روسيا بسبب اقتراب البنية التحتية وأسلحة الحلف بمختلف أشكالها من روسيا، التى قال الرئيس بوتين عنها إن أى صاروخ أسرع من الصوت يمكنه أن يصل لموسكو فى دقائق معدودة. 2 بدأت روسيا تشعر بالقلق بعد الإطاحة بالرئيس الأوكرانى القادم من شرق أوكرانيا (الدونباس) فيكتور يانوكوفيتش الذى فر إلى روسيا عقب انقلاب عليه قام به القوميون الأوكران عام 2014، ما ينذر بسيطرة الفاشيين الجدد فى البلاد على مقاليد الحكم . 3 يتهم الرئيس بوتين القيادة الأوكرانية بإطلاق العنان للقوميين للتحكم فى البلاد والعباد، والعمل على منع استخدام اللغة الروسية فى البلاد، وذهب لأبعد من ذلك فاتهم القيادة الأوكرانية بالقيام بعملية إبادة جماعية ضد المواطنين المتحدثين باللغة الروسية فى شرق البلاد، ومن يحملون الجنسية الروسية. 4 السبب الأهم_ وفى تقديرى _ هو عدم تطبيق الحكومة والرئيس الأوكرانى لاتفاقية مينسك الخاصة بالتسوية فى الدونباس، والتى تمنح شرق أوكرانيا ومنطقة الدونباس حكما ذاتيا واسع الصلاحيات، وخشى الرئيس الأوكرانى على نفسه من الإطاحة به إن طبقها، وهو الذى جاء على قاعدة شعارات استعادة القرم والدونباس إلى أحضان الوطن. 5 هناك سبب شخصى، وهو أن الرئيس بوتين استخف بالرئيس الأوكرانى فهو رجل صغير السن نسبياً (44 عاما) ولا أحد يعرف له علاقة بالسياسة من قبل، هو شخص له علاقة بالسينما والمسلسلات وكتابة السيناريو، وعلى وجه الخصوص الكوميديا والتهريج، ولديه ستوديو لإنتاج المواد الفكاهية يسمى "كفارتال 95" قبيل انتخابه بوقت قصير قام ببطولة فيلم أو ربما مسلسل تحت اسم "خادم الشعب" ويروى قصة مواطن بسيط انتخب رئيساً ويبذل محاولات للقضاء على الفساد والتحمس لحقوق المواطن البسيط، وربما هذا رفع من شأنه وزاد من جماهيريته، وذلك عندما خلط المواطن بين الواقع والخيال، واعتقد بأنه سيكون الرئيس الذى جاء فى المسلسل سيقضى على الفساد ويصلح الأحوال المعيشية. ما الهدف من الحرب، يمكن قراءتها من خلال الأسباب 1 هو إجبار أوكرانيا على التخلي عن فكرة الانضمام لحلف الناتو. 2 اجتثاث التيار القومى والقوميين ومن سماهم الرئيس بوتين الفاشيين الجدد الذين يحاربون اللغة الروسية ويضطهدون المتحدثين بها. 3 نزع سلاح أوكرانيا ووفق رؤية الرئيس بوتين تدفقت كميات كبيرة من الأسلحة على أوكرانيا منذ الأزمة الأخيرة وبالتالي يجب نزع سلاحها. 4 هى الإطاحة بالرئيس الحالى وتنصيب رئيس جديد وحكومة جديدة تحوز رضا موسكو، ولا تتحالف مع أعداء روسيا مثل الناتو أو الغرب بصفة عامة، ولا يستبعد البعض أن يكون الرئيس القادم هو فيكتور يانوكوفيتش الذى أطاح به القوميون الأوكران عام 2014. حرية الحركة والسيادة أما النظام الأوكرانى فهو متمسك بمطالبه من حرية الحركة والسيادة على أراضيه والتصرف بحرية سواء فى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبى أو حلف الناتو، وهذا ما لم يعجب الرئيس بوتين وجعله يعادى أوكرانيا التى يتهمها بأنها تهدد أمن روسيا، كما أن روسيا غير راضية عن النظام بصفة عامة وتقول إن ما يتحكم فيه هم القوميون اتباع ستيبان بنديرا الذى خاض حرب عصابات لسنوات طويلة ضد الجيش السوفيتى لفترة طويلة فى غرب أوكرانيا، وتعتبر روسيا النظام الحالى فى كييف نظاما فاشيا نازيا ولذلك وضع الرئيس بوتين ضمن أهداف الحملة العسكرية هدف اجتثاث التيار القومى من البلاد. تداعيات خطيرة تداعيات هذه الحرب سواء على أوكرانيا نفسها أو على روسيا وحتى على العالم كله، فمن ناحية روسيا، فإنها تخوض مقامرة إن نجحت فيها فهى تكون بذلك قد كسرت أحادية القطب فى العالم، وأتصور ما يمكن أن تفعله روسيا إذا تمكنت من إلقاء القبض على القيادة الأوكرانية كما ترغب وتقدمهم للمحاكمة سواء فى موسكو أو فى كييف، وكيف سينظر العالم لروسيا نظرة مختلفة تماماً، لكن ماذا عن المقاومة وعن إمدادات السلاح الغربى التى وعدت بها أوكرانيا من واشنطن أو دول أوروبا، وهل بعد سيطرة روسيا سيقوم الشعب بحرب عصابات، وهل ستجذب هذه الحرب عناصر مقاتلة من خارج البلاد تريد قتال الروس أو حتى من قبيل التعاطف مع الشعب الأوكرانى. على أى حال يبدو أن العقوبات على روسيا لم تؤتِ أكلها حتى الآن، فالقوات الروسية مازالت تواصل تقدمها على جميع المحاور واستولت بالفعل على مدينة خاركيف العاصمة القديمة لأوكرانيا وثاني أكبر المدن، ناهيك عن معارك شرق البلاد وإقليم الدونباس الذى حققت فيه روسيا وقوات الانفصاليون تقدماً كبيراً، ومن المتوقع سقوط مدن أخرى خلال الساعات القادمة، لكن على أى حال لم تكن هذه الحرب نزهة للجيش الروسى وربما فوجيء بالمقاومة الأوكرانية الشرسة، والخسائر التى مُنى بها خلال الأيام الأولى للحرب. حرب شوارع ومن المتوقع أن تشهد أوكرانيا حرب شوارع خلال الأيام القادمة فى حال استيلاء روسيا على المدن الأوكرانية، وفى نفس الوقت ووفق صحيفة "الإيكونوميست" فإن الغرب ليس لدية إمكانية وقف العملية العسكرية الروسية، فالعقوبات التى هدد بها الغرب ويهدد بتصعيدها لن تؤثر بين عشية وضحاها، ويجب أن يمر عليها فى أحسن الأحوال شهر، لسبب بسيط وهو أن العالم ما زال فى حاجة للنفط والغاز الروسيين، كما أن الغرب ورغم إدانته الشديدة للتدخل الروسى فى أوكرانيا إلا أنه أعلن صراحة أنه لن يدخل فى مواجهة عسكرية مع دولة نووية، ويبدو أن الغرب يأمل فى الإدانة والضغط الاقتصادي وعدم الرضا والضغط داخل روسيا على القيادة سوف يخفف من قبضة روسيا فى أوكرانيا، وقد يجبرها على التراجع عن العملية العسكرية فى أوكرانيا. إلا أن هذا لم يحدث حتى الآن رغم فداحة الخسائر التى قد تتحملها روسيا نتيجة العقوبات، وتأمل روسيا فى أن الغرب الذى سوف يعانى كذلك مالياً من هذه العقوبات وأن يتخلى عنها أو تخفيفها مع الوقت، أو على الأقل يحدث انقسام داخل المجموعة الأوروبية، فعلى سبيل المثال رفض أوربان رئيس وزراء المجر إلغاء عقود وقعها مع روسيا، وهذا ما تنتظره روسيا حالياً. خط أحمر على صعيد آخر أشارت صحيفة البرافد الروسية نقلاً عن مدير المخابرات العسكرية التشيكى السابق أندور شاندور إلى أن الرئيس بوتين لن يتراجع تحت أى ضغط وأى سبب عن عمليته العسكرية فى أوكرانيا، فالهدف الأساسي وما يشغله الآن هو حفر الخط الأحمر الذى رسمه وعدم إعطاء أوكرانيا أى فرصة للانضمام للناتو، وهو بذلك يريد فرض تصميم جديد لمنظومة الأمن فى أوروبا، ويضيف المسئول التشيكى السابق إلى أن الرئيس بوتين مقتنع بأنه ليس لدى روسيا ما تخسره، ولذلك فإن بوتين يستمر فى عمليته العسكرية حتى تحقق أهدافها. لكن ورغم التصميم الروسى على المضى قدماً فى العملية العسكرية، فى صباح يوم 27 فبراير أعلنت روسيا على لسان المتحدث باسم الكرملين دميترى بيسكوف، أن وفداً روسيا غادر إلى مدينة جوميل البيلاروسية على الحدود الأوكرانية، لمباحثات مع وفد من أوكرانيا لم يعلن عنه، ولا يعرف أحد ما إذا كانت ستجرى المباحثات أم سيلقى مصيرها المحاولة الأولى التى تقدمت بها أوكرانيا فى 24 فبراير، وألغيت بسبب دخول القوات الروسية إلى أوكرانيا، ورفض الرئيس الأوكرانى عرض روسيا الأخير أيضاً واقترح التفاوض فى باكو أو اسطنبول أو بودابست ورفض التفاوض فى مينسك أو بيلاروسيا، التى ربما أراد الرئيس الروسى باختيارها تذكيره باتفاق مينسك، وذهاب الرئيس الأوكرانى إليها سيعتبر نوعا من الإذعان، كما أن الرئيس الأوكرانى اعتبر بيلاروسيا مشاركة فى العدوان على بلاده، ومن ثم لا يريد التفاوض على أراضيها ووجه لوما شديدا لبيلاروسيا لمشاركتها فى العدوان على بلاده لأن القوات الروسية تتمركز فيها وتأتى منها، على أى حال جرب مفاوضات فى مدينة جوميل على الحدود بين بيبلاروسياوأوكرانيا ولم يثمر عن شئ. ووفق الرئيس الأوكرانى أنه ذهب للتفاوض وهو يعرف أنها لن تأتى بجديد، لكن لكى لا يظن البعض أنه لا يريد السلام، فى نفس الوقت حققت أوكرانيا بعض التقدم المعنوى من خلال هذا التفاوض، حيث وافقت روسيا على التفاوض دون شروط مسبقة وهو ما يعنى أن المفاوضات هى مجرد مفاوضات فقط، ولا تعنى استسلام أوكرانيا مع استمرار العملية العسكرية. المستقبل لكن هنا أستبق الأحداث، واستشف المستقبل بعد انتهاء العمليات العسكرية 1 إذا استطاعت أوكرانيا الصمود، مع إمدادها بالسلاح والمتطوعين كما تحدث عن ذلك رئيس الوزراء البريطانى، ستدخل روسيا مستنقع حرب استنزاف طويلة منهكة، وهذا فى ظل العقوبات غير المسبوقة سيجعل الأوضاع فى روسيا تسوء ما قد يؤدى فى النهاية إلى انخفاض شعبية الرئيس بوتين، بل والتمرد عليه . 2 فى حال تقدم روسيا وسيطرتها على المدن الرئيسية فى أوكرانيا وتقدم انفصالى الدونباس من جهة الشرق، على الأرجح وهذا أحد أهداف روسيا الرئيسية بخلاف الأهداف المذكور سلفاً قد تكون تقسيم أوكرانيا إلى شرق وغرب على الطريقة الألمانية (شرق متحدث بالروسية وغرب متحدث باللغة الأوكرانية). 3 تداعى انتصار كل طرف على الوسط المحيط فى فضاء الاتحاد السوفيتى السابق فى حال انتصار وجهة النظر الأوكرانية المدعومة بالغرب سيحدث تمرد على السطوة الروسية فى بعض الدول مثل ارمينيا، وسيضعف موقف رئيس بيلاروسيا جداً لأنه مدعوم من روسيا ولن تستطيع روسيا القيام بدورها فى حل المنازعات بين الدول السوفيتية السابقة وقد يحاول البعض أن يحذو حذو أوكرانيا فى الانضمام للناتو أو سيحاول، أما فى حال انتصار وجهة النظر الروسية فسيأتى الجميع مقدماً فروض الطاعة والولاء للقطب الجديد (روسيا) حامى الحمى والقادر على قهر الغرب، والأهم هو أن دور الولاياتالمتحدة سيتراجع كثيراً وقد يتمرد عليها الحلفاء فى كل مكان، لا أريد الإطالة فى هذا الاتجاه ولكنى سأكتفي بالقول إن هذا الاتجاه يحتاج إلى مقالات، لكن هذه الحرب هى معركة على سيادة العالم، لمن ستكون الغلبة حتى الآن الغرب يستخدم كل أسلحته وروسيا تقاوم بكل ما تملك، وباقى العالم ينتظر نتيجة المواجهة، إذا نجح بوتين فقد قضى على الهيمنة الأمريكية وعالم القطب الأحادي، وإذا لم يوفق فستكون روسيا مجرد قوة إقليمية كما قال الرئيس الأمريكى الأسبق باراك أوباما ولها شرف المحاولة. لننتظر وإن غدا لناظره قريب.