الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة أحد أبرز شعراء الحداثة في العالم العربي ، صاحب تجربة شعرية كبيرة تمتد لأكثر من نصف قرن أصدر خلالها مجموعة من الدواوين منها "قلبي وغازلة الثوب الأزرق" و "رقصات نيلية" و "شجر الكلام" وغيرها، وحصل على عدة جوائز منها جائزة الدولة التقديرية، وجائزة ملتقى الشعر العربي. تمتلئ ذاكرة الشاعر " أبو سنة" بحكايات كثيرة عن علاقته بالشعر، وبدايات الكتابة، وعن طفولته التي جنحت إلى الخيال، وحب الأساطير، فيما كانت روحه تعاني الفقد بعد وفاة والدته وهو لم يزل في السابعة من عمره. يرى صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» أن الحياة مراحل، وفي كل مرحلة تتحول الشخصية، ويضاف في مخزونها الإبداعي والأخلاقي أشياء وصفات كثيرة، ما يمنحها حالة من المرونة في اتخاذ المواقف، أو مواجهة المواقف المضادة. ويشير أبو سنة إلى أن هناك كثيراً من الأحداث تؤثر في كل شخص، ويضيف قائلاً: كانت الحادثة الأولى في حياتي هي وفاة والدتي وأنا في السابعة من عمري، ألقتني هذه الحادثة في مفرق طرق الوجود، وكان اغترابي عن قريتي التي ولدت فيها بداية الكشف عن الذات واختيارها في لحظات الخطر المحدقة بصبي في العاشرة لا يرى في العالم إلا صورة لما يتمناه لا ما يشاهده بالفعل، كانت مظاهر البؤس التي صبغت رؤيتي الوجودية خلال السنوات العشر الأولى من حياتي في قرية «الودي»بمركز الصف بالجيزة، ،. حملت فطرة الريفي الساذج إلى طرق المدينة الوعرة، كنت أحاول الاختبار في معطف الوهم حتى فاجأني الخيال الشعري مع اندلاع ثورة يوليو 1952، صورة رائعة لميلاد أمة عبر رفض شعبي للاستبداد الملكي والاستعمار الإنجليزي، كانت الأحلام الكبرى تتناسل عبر الأناشيد والهتافات والأهازيج، وانخرطت في المعزوفة الجماعية قبل أن يتحقق لي وعي مستقل بموهبتي الشعرية. ثورة الشعر يشير أبوسنة إلى تأثير مرحلة المراهقة على تجاربه الشعرية الأولى التي امتلأت بالإنشاد والرومانسية واللوعة واللهفة، والأمل وغيرها من مفردات تلك المرحلة، وعلى حسب تعبيره: يبدأ الشعر بالالتفات إلى الذات في فترة المراهقة، حيث تتفجر القوى العضوية والحيوية طامحة إلى التغيير والتحقق لكن اهتزازي الأول لسحر الشعر كان وسط الجماهير من الطلاب الذين اندفعوا في مظاهرات حاشدة يؤازرون الثورة. وإذا كان مشهد الوطنية قد ألهمني في كتابة أولى أهازيجي الشعرية، فإن الحب الذي كان بمثابة معادل للوجود بأكمله قد رافق خطواتي الأولى في هذه المدينة التي كانت تستعصي على الفهم والترويض، لقد وقعت في غرام الفتاة التي أطلت بوجهها الجميل من نافذة البيت المجاور، وسرعان ما انخرطنا معاً في إشارات طفولية، تبادلنا بعدها عبارات الإعجاب ثم المشاركة في لهو بريء كان يدفعني إلى التمارض وعدم الذهاب إلى المدرسة التي جئت إليها من القرية لأحفظ القرآن الكريم تمهيداً لدخولي معهد القاهرة الديني الأزهري، ومن هنا، ومنذ اكتشافي هاجس الشعر في نفسي فإنني هدمت الحواجز بين الأزمنة، لقد انهمكت تحت الحمى الثورية أو الدينية أو العاطفية في كتابة مطولات شعرية ركيكة أحمد الله أن أحداً لم يطلع عليها وإلا نهاني للأبد عن مرض الشعر. يضيف أبو سنة قائلاً: لقد أصبح الحب والولع بالمرأة يرسخ إيماني بالحياة ولكن ذكريات القرية التي تطفو مخلفة رمادها الحزين في العيون كانت تقودني دائماً إلى هذه المشاهد الفاجعة، حيث كنت دائماً وأنا طفل صغير أشارك في تشييع الجنازات طبقاً للعادات والتقاليد الدينية، كان إنزال الميت إلى قبره ثم الانصراف بعد ذلك، تاركين الموتى لمصيرهم، يغمر قلبي بالكآبة والغم والإحساس بهوان الحياة، وعشت منذ تلك اللحظات الدامعة أتمنى ألا أدفن حين أموت، وربما اشتهيت أن يكون موتي في البحر أو الجو حتى لا أترك وحيداً في هذه البرية الموحشة، هكذا كانت الصحراء مسرحاً لهذه الثنائية «الحب والموت» وظلت ثنائية الفرح والحزن تسيطر على معظم شعري، لقد كان شعر هذه المرحلة تقليدياً غارقاً في احتذاء شعراء الماضي، كتبت عشرات القصائد الدينية والغزلية تحت تأثير الخيال والوهم معاً، وبينما كنت غارقاً في أسفاري إلى الماضي كان الواقع الثقافي في مصر في الخمسينات يشهد مع تفجر الثورة ميلاد الوطنية والأحلام القومية وآمال الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية. جيل إبداعي ويؤكد أبو سنة أن قيمة الصداقة الحقيقية تكمن فيمن تختارهم ليشاركوك هذه الصداقة، وقد كان للصداقات الأولى أثر في حياته، حيث تعرف إلى مجموعة الشعراء أمثال مجاهد عبد المنعم مجاهد، وكمال عمار، وجيلي عبد الرحمن وأدباء مثل عبد الله الطوخي، وفاروق منيب، وبدر نشأت، وكامل أيوب، الذين كانوا يجتمعون في منزل عبد المنعم مجاهد ب«القلعة» ومن خلال تلك الجلسة الثرية بدأ يتعرف إلى أسماء لم يكن قد قرأ عنها أو سمع بها مثل «بابلو نيرودا، وأراغون، ولوركا» وصلاح عبد الصبور وعبد الوهاب البياتي ونازك الملائكة. يقول أبو سنة عن تلك المرحلة: رغم سخرية أدباء «جلسة القلعة» من قصائدي الغارقة في الرومانسية والبنية التقليدية وقتها، فإنهم قادوا خطاي إلى عالم جديد تماماً، خاصة كمال عمار الذي دلني على مبنى دار الكتب، وتعرفت عن طريقهم إلى مقر رابطة الأدب الحديث، حيث تعرفت إلى محمود أمين العالم ود. محمد مندور وعبد اللطيف السحرتي، والشعراء: جليلة رضا ونجيب سرور، ومحيي الدين فارس، وعائلة الخزرجي، وهلال ناجي. وقد تأثرت بديوان «قرارة الموجة» لنازك الملائكة في كتاباتي الأولى في القصيدة التفعيلية التي نشرت أولى محاولاتي بها في جريدة «المساء» في ملحقها الأدبي عام 1959 وكانت تحمل عنوان «القارة الغاضبة» ثم بدأت التعرف إلى مجلة «الآداب البيروتية» التي أثرت في جيل كامل من الأدباء، حيث كانت تنشر التجارب الجديدة والمغامرة في الأدب بشكل عام في القصة والشعر، ثم زادت معرفتي بالشعر العالمي، فقرأت لشيلي وكيتس وبيرون، من خلال ترجمات للويس عوض وعبد الرحمن بدوي وعبد الوهاب المسيري «الخيال» يلعب الدور الأهم في تجربة أبوسنة ، وهو فإن علاقة وكذلك علاقة الشاعر بالواقع المحيط به، وما يعتري هذا الواقع من تحولات العاصفة، وهذا ما يشير إليه قائلاً: لقد مضيت في الاستجابة لتحولات الواقع دون أسقط التي قامت عليها ثقافتي، لقد كان للقائي بالدكتور لويس عوض في صحيفة , الأهرام والانضمام إلى الكوكبة التي كان يسميها شعراء الأهرام وعلى رأسهم صلاح عبد الصبور أثر عميق في تعميق إحساسي بالمسئولية تجاه شاعريتي، فقد حاول الدكتور لويس عوض أن يوجهني إلى دراسة اللغات الأجنبية وإلى قراءة الشعر الأوروبي، وكانت مناقشاته الجادة والحادة خلال عرض نماذجي الشعرية عليه لنشرها في الملحق الثقافي للأهرام الذي كان الدكتور لويس عوض يشرف عليه بمثابة درس في النقد الأدبي، ورغم أنه كان موجعاً ومتشدداً فإنني كنت أحترم آراءه، والحقيقة أنني رغم كثرة الدراسات التي كتبت حول شعري بأقلام كبار النقاد مثل لويس عوض ومصطفى السحرتي ومحمود أمين العالم ومحمد عبد المطلب وغيرهم، فإنني أحس دائماً بأنهم لم يكونوا يميلون إلى إطرائي أو تشجيعي، وإنما كانت الحقيقة الموضوعية هي التي تملي عليهم كتاباتهم التي أفادتني كثيراً في مراحل مختلفة من تجربتي الشعرية. ويشير أبو سنة إلى أن هناك مجموعة من أعماله الشعرية حوّلت مساره الشعري، وعبرت عن اختلاف تجربته من مرحلة إلى أخرى، ومنها ديوان «تأملات في المدن الحجرية» الذي وضعه في قلب «الحدث الدرامي»، حيث تأثر بقراءته المتعددة لتراث المسرح والشعر العالمي أمثال أعمال شكسبير، والشعر اليوناني القديم لسوفوكليس وأريستوفانيس ويوربيدس، ما جعله مغرماً بالمسرح الملحمي، ولذلك اتجه إلى كتابة المسرح بما فيه من لغة مقاومة فكتب مجموعة من المسرحيات منها «حصار القلعة» وعن هذه التجربة يقول محمد إبراهيم أبو سنة: «حصلت على منحتين للتفرغ للكتابة الشعرية المسرحية بتزكية من الأساتذة لويس عوض ويحيى حقي وعبد القادر القط وأنور المعداوي الذين كتبوا يزكونني لإدارة التفرغ، وقد كنت أطمع في مواصلة تجربتي المسرحية، لكن الإحباط الذي منيت به بسبب عدم تمثيل هاتين المسرحيتين قد ثناني، على ما يبدو، عن المبادرة إلى كتابة المزيد من المسرحيات الشعرية، لكن الهاجس المسرحي يسكنني، فقد ظللت أحاور تجاربي الشعرية بروح درامية، وربما اتضح هذا في بعض القصائد مثل «مشاهدات دامية في مدينة لا مبالية» و«تأملات في المدن الحجرية». ويضيف أبو سنة: لقد تأثرت بالتيار الواقعي، وانحزت إلى البعد الإنساني، حيث حافظت على صوتي الشعري نابعاً من النداء الداخلي لضميري، ومرتكزاً على متطلبات الفن الشعري، ومعبراً بالضرورة عن تجربتي الإنسانية في إطار ترابطها مع الآخرين، لهذا جاءت قصائدي خالية من الانغلاق الأيديولوجي، ولا أنكر تأثري بالمرحلة الناصرية والرسائل الإنسانية التي قدمتها، ولم يكن لشاعر مثلي انغمس في قراءة عصره سياسياً وفلسفياً وشعرياً وأدبياً أن يتجاهل الأحداث الكبرى التي حاصرت 1973جيلي من الشعراء، فقد جاء ما سمي بجيل الستينات ليواجه حصار الديمقراطية وأزمتها ووطأة هزيمة يونيو/حزيران، وانتفاض الأمة مرة أخرى في حرب أكتوبر/ تشرين الأول ، والقضايا الأخرى العاصفة التي مرت بها البلاد. ويرى أبو سنة أن التجريب كان عنصراً أساسياً في حياته الأدبية،ففي كل مرحلة يسعى لتغيير الشكل والمضمون، يقول عن ذلك: ظل الشكل الفني يؤرقني سنوات، فطوال الوقت كنت أطرح تساؤلات على وجداني الداخلي: هل أستسلم للخطة الشعرية أم أخطط لبناء القصيدة بناءً فنياً؟ وهل أطارد الشعر أم أتركه يطاردني وظللت أيضاً مشغولاً بسؤال: من أين يأتي الشعر؟ فهناك أحداث تزلزلنا لكن الاستجابة لها شعرياً قد لا تحدث على الإطلاق، وهناك ومضات غامضة تظل تؤرقنا ثم تفاجئنا بقصائد لم نكن ندري عنها شيئاً، الشعر مفاجأة ولكنه لا ينبعث من العدم، إنه يقبل من تغطية الحواس والتعاطف مع الوجود والولع بالجمال والجهد المضني، فهو أشبه بالمطارحات الغرامية، لا بد أن يشعر الشعر بحبك له وقدرتك على التضحية من أجله. إن الشعر يعمل بطاقة الخيال، لكنه يتسم بدافع الوهم، يتوهم الشعراء أنهم يركضون وراء الحقيقة، لكن الحقيقة أقسى وأشد متعة من الإحاطة بها، لقد كانت تجربتي مع الشعر صراعاً مع الوجود الحر للكلمات، ومحاولة لاصطياد فراشات الشعر. عاشق الطبيعة ويؤكد أبو سنة أنه عاشق للطبيعة ومفرداتها، منذ الطفولة وحتى الآن، وهذا العشق- من وجهة نظره- جعله ينحاز إلى فكرة «الخيال» في الكتابة وعلى حد تعبيره، كما تتكون عناصر الطبيعة من الماء والهواء والنار والتراب، يتشكل الشعر من اللغة والموسيقى، وإذا كان الخيال هو القوة المحركة للإدراك الإنساني، كما يقول الشاعر الإنجليزي «وليم بليك» فإن ما يحرك الخيال هو وقوع الحادثة الشعرية، وقد تكون هذه الحادثة هي الحب أو الحرب أو الموت أو الشوق الحارق والتأمل الخلاق. ويضيف أبو سنة: أنا راضٍ عن تجربتي التي رافقني فيها الشاعر، عشت معه أجمل الأحاسيس، وعبرت من خلاله عن أسمى المشاعر التي يمكن أن يمر بها إنسان، صنعت من كلماته ما يخفف ألمي ويمنحني الثقة في الحياة. وحول تجربته في العمل الإذاعي يرى أبو سنة أن هذه التجربة أفادته كثيراً، حيث عمل أكثر من أربعين عاماً في الإذاعة المصرية، حتى وصل إلى رئاسة إذاعة البرنامج الثاني (البرنامج الثقافي)، وعمل نائباً لرئيس الإذاعة حتى أحيل إلى المعاش، حيث قدم عشرات البرامج التي رصدت الحياة الثقافية وأهم الإصدارات الأدبية، واهتم بتقديم البرامج الخاصة بالشعر، وبالتحليل والقراءة، وهو من الجيل الذي قدّم إضافات حقيقية في هذه الإذاعة مثل بهاء طاهر وفاروق شوشة والشريف خاطر وغيرهم.