تمتلئ ذاكرة الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة ؛الفائز بجائزة ملتقي القاهرة الدولي للشعر؛ بحكايات كثيرة عن علاقته بالشعر، وبدايات الكتابة، وعن طفولته التي جنحت إلى الخيال، وحب الأساطير، فيما كانت روحه تعاني الفقد بعد وفاة والدته وهو لم يزل فى السابعة من عمره. يرى صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» أن الحياة مراحل، وفى كل مرحلة تتحول الشخصية، ويضاف فى مخزونها الإبداعي والأخلاقي والقيمي أشياء وصفات كثيرة، ما يمنحها حالة من المرونة فى اتخاذ المواقف، أو مواجهة المواقف المضادة. ويشير أبو سنة إلى أن هناك كثيراً من الأحداث تؤثر سلباً وإيجاباً فى تكوين كل شخص، ويضيف قائلاً: كانت الحادثة الأولى فى حياتي هي وفاة والدتي وأنا فى السابعة من عمري، ألقتني هذه الحادثة فى مفرق طرق الوجود، وكان اغترابي عن قريتي التي ولدت فيها بداية الكشف عن الذات واختيارها فى لحظات الخطر المحدقة بصبي فى العاشرة لا يرى فى العالم إلا صورة لما يتمناه لا ما يشاهده بالفعل، كانت مظاهر البؤس التي صبغت رؤيتي الوجودية خلال السنوات العشر الأولى من حياتي فى قرية «الودي» بمركز الصف بمحافظة الجيزة، تدفعني إلى التعاطف مع هؤلاء البسطاء الذين لا يجدون حتى من يصغي إليهم، فضلاً عمن يمنحهم العون.. حملت فطرة الريفى الساذج إلى طرق المدينة الوعرة، كنت أحاول الاختبار فى معطف الوهم حتى فاجأني الخيال الشعري مع اندلاع ثورة يوليو 1952، رأيت صورة رائعة لميلاد أمة عبر رفض شعبي للاستبداد الملكي والاستعمار الإنجليزي، كانت الأحلام الكبرى تتناسل عبر الأناشيد والهتافات والأهازيج، وانخرطت فى المعزوفة الجماعية قبل أن يتحقق لي وعي مستقل بموهبتي الشعرية. لغة الحب ويشير أبو سنة إلى تأثير مرحلة المراهقة على تجاربه الشعرية الأولى التي امتلأت بالإنشاد والرومانسية واللوعة واللهفة، والأمل وغيرها من مفردات تلك المرحلة، وعلى حسب تعبيره: يبدأ الشعر بالالتفات إلى الذات فى فترة المراهقة، حيث تتفجر القوى العضوية والحيوية طامحة إلى التغيير والتحقق لكن اهتزازي الأول لسحر الشعر كان وسط الجماهير من الطلاب الذين اندفعوا فى مظاهرات حاشدة يؤازرون الثورة. وإذا كان مشهد الوطنية قد ألهمني فى كتابة أولى أهازيجي الشعرية، فإن الحب الذي كان بمثابة معادل للوجود بأكمله قد رافق خطواتي الأولى فى هذه المدينة التي كانت تستعصي على الفهم والترويض، لقد وقعت فى غرام الفتاة التي أطلت بوجهها الجميل من نافذة البيت المجاور، وسرعان ما انخرطنا معاً فى إشارات طفولية، تبادلنا بعدها عبارات الإعجاب ثم المشاركة فى لهو بريء كان يدفعني إلى التمارض وعدم الذهاب إلى المدرسة التي جئت إليها من القرية لأحفظ القرآن الكريم تمهيداً لدخولي معهد القاهرة الديني الأزهري، ومن هنا، ومنذ اكتشافى هاجس الشعر فى نفسي فإنني هدمت الحواجز بين الأزمنة، لقد انهمكت تحت الحمى الثورية أو الدينية أو العاطفية فى كتابة مطولات شعرية ركيكة أحمد الله أن أحداً لم يطلع عليها وإلا نهاني للأبد عن مرض الشعر.. يضيف أبو سنة قائلاً: لقد أصبح الحب والولع بالمرأة يرسخ إيماني بالحياة ولكن ذكريات القرية التي تطفو مخلفة رمادها الحزين فى العيون كانت تقودني دائماً إلى هذه المشاهد الفاجعة، حيث كنت دائماً وأنا طفل صغير أشارك فى تشييع الجنازات طبقاً للعادات والتقاليد الدينية، كان إنزال الميت إلى قبره ثم الانصراف بعد ذلك، تاركين الموتى لمصيرهم، يغمر قلبي بالكآبة والغم والإحساس بهوان الحياة، وعشت منذ تلك اللحظات الدامعة أتمنى ألا أدفن حين أموت، وربما اشتهيت أن يكون موتي فى البحر أو الجو حتى لا أترك وحيداً فى هذه البرية الموحشة، هكذا كانت الصحراء مسرحاً لهذه الثنائية «الحب والموت» وظلت ثنائية الفرح والحزن تسيطر على معظم شعري، لقد كان شعر هذه المرحلة تقليدياً غارقاً فى احتذاء شعراء الماضي، كتبت عشرات القصائد الدينية والغزلية تحت تأثير الخيال والوهم معاً، وبينما كنت غارقاً فى أسفاري إلى الماضي كان الواقع الثقافى فى مصر فى الخمسينيات يشهد مع تفجر الثورة ميلاد الوطنية والأحلام القومية وآمال الحرية والعدالة الاجتماعية والوحدة العربية. تجربة حياة ويؤكد أبو سنة أن قيمة الصداقة الحقيقية تكمن فيمن تختارهم ليشاركوك هذه الصداقة، وقد كان للصداقات الأولى أثر فى حياته، حيث تعرف إلى مجموعة الشعراء أمثال مجاهد عبدالمنعم مجاهد، وكمال عمار، وجيلي عبدالرحمن وأدباء مثل عبدالله الطوخي، وفاروق منيب، وبدر نشأت، وكامل أيوب، الذين كانوا يجتمعون فى منزل عبدالمنعم مجاهد ب«القلعة» ومن خلال تلك الجلسة الثرية بدأ يتعرف إلى أسماء لم يكن قد قرأ عنها أو سمع بها مثل «بابلو نيرودا، وأراغون، ولوركا» وصلاح عبدالصبور وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة. يقول أبو سنة عن تلك المرحلة: رغم سخرية أدباء «جلسة القلعة» من قصائدي الغارقة فى الرومانسية والبنية التقليدية وقتها، فإنهم قادوا خطاي إلى عالم جديد تماماً، خاصة كمال عمار الذي دلني على مبنى دار الكتب، وتعرفت عن طريقهم إلى مقر رابطة الأدب الحديث، حيث تعرفت إلى محمود أمين العالم ود. محمد مندور وعبداللطيف السحرتي، والشعراء: جليلة رضا ونجيب سرور، ومحيي الدين فارس، وعائلة الخزرجي، وهلال ناجي.. وقد تأثرت بديوان «قرارة الموجة» لنازك الملائكة فى كتاباتي الأولى فى القصيدة التفعيلية التي نشرت أولى محاولاتي بها فى جريدة «المساء» فى ملحقها الأدبي عام 1959 وكانت تحمل عنوان «القارة الغاضبة» ثم بدأت التعرف إلى مجلة «الآداب البيروتية» التي أثرت فى جيل كامل من الأدباء، حيث كانت تنشر التجارب الجديدة والمغامرة فى الأدب بشكل عام فى القصة والشعر، ثم زادت معرفتي بالشعر العالمي، فقرأت لشيلي وكيتس وبيرون، من خلال ترجمات للويس عوض وعبدالرحمن بدوي وعبدالوهاب المسيري. إذا كان «الخيال» يلعب الدور الأهم فى تجربة «أبو سنة» الشعرية، فإن هناك رافداً مهماً لهذه التجربة، وهو علاقة الشاعر بالواقع المحيط به، وما يعتري هذا الواقع من تحولات عاصفة، وهذا ما يشير إليه قائلاً: لقد مضيت فى الاستجابة لتحولات الواقع دون أن أسقط الأسس التي قامت عليها ثقافتي، لقد كان للقائي بالدكتور لويس عوض فى صحيفة الأهرام والانضمام إلى الكوكبة التي كان يسميها شعراء الأهرام وعلى رأسهم صلاح عبدالصبور أثر عميق فى تعميق إحساسي بالمسئولية تجاه شاعريتي، فقد حاول الدكتور لويس عوض أن يوجهني إلى دراسة اللغات الأجنبية وإلى قراءة الشعر الأوروبي، وكانت مناقشاته الجادة والحادة خلال عرض نماذجي الشعرية عليه لنشرها فى الملحق الثقافى للأهرام الذي كان الدكتور لويس عوض يشرف عليه بمثابة درس فى النقد الأدبي، ورغم أنه كان موجعاً ومتشدداً فإنني كنت أحترم آراءه، والحقيقة أنني رغم كثرة الدراسات التي كتبت حول شعري بأقلام كبار النقاد مثل لويس عوض ومصطفى السحرتي ومحمود أمين العالم ومحمد عبدالمطلب وغيرهم، فإنني أحس دائماً بأنهم لم يكونوا يميلون إلى إطرائي أو تشجيعي، وإنما كانت الحقيقة الموضوعية هي التي تملي عليهم كتاباتهم التي أفادتني كثيراً فى مراحل مختلفة من تجربتي الشعرية. ويشير أبو سنة إلى أن هناك مجموعة من أعماله الشعرية حوّلت مساره الشعري، وعبرت عن اختلاف تجربته من مرحلة إلى أخرى، ومنها ديوان «تأملات فى المدن الحجرية» الذي وضعه فى قلب «الحدث الدرامي»، حيث تأثر بقراءاته المتعددة لتراث المسرح والشعر العالمي أمثال أعمال شكسبير، والشعر اليوناني القديم لسوفوكليس وأريستوفانيس ويوربيدس، ما جعله مغرماً بالمسرح الملحمي، ولذلك اتجه إلى كتابة المسرح بما فيه من لغة مقاومة فكتب مجموعة من المسرحيات منها «حصار القلعة» وعن هذه التجربة يقول محمد إبراهيم أبو سنة: «حصلت على منحتين للتفرغ للكتابة الشعرية المسرحية بتزكية من الأساتذة لويس عوض ويحيى حقي وعبدالقادر القط وأنور المعداوي الذين كتبوا يزكونني لإدارة التفرغ، وقد كنت أطمع فى مواصلة تجربتي المسرحية، لكن الإحباط الذي منيت به بسبب عدم تمثيل هاتين المسرحيتين قد ثناني، على ما يبدو، عن المبادرة إلى كتابة المزيد من المسرحيات الشعرية، لكن الهاجس المسرحي يسكنني، فقد ظللت أحاور تجاربي الشعرية بروح درامية، وربما اتضح هذا فى بعض القصائد مثل «مشاهدات دامية فى مدينة لا مبالية» و«تأملات فى المدن الحجرية». تيار واقعي ويضيف أبو سنة: لقد تأثرت بالتيار الواقعي، وانحزت إلى البعد الإنساني، حيث حافظت على صوتي الشعري نابعاً من النداء الداخلي لضميري، ومرتكزاً على متطلبات الفن الشعري، ومعبراً بالضرورة عن تجربتي الإنسانية فى إطار ترابطها مع الآخرين، لهذا جاءت قصائدي خالية من الانغلاق الأيديولوجي، ولا أنكر تأثري بالمرحلة الناصرية والرسائل الإنسانية التي قدمتها، ولم يكن لشاعر مثلي انغمس فى قراءة عصره سياسياً وفلسفياً وشعرياً وأدبياً أن يتجاهل الأحداث الكبرى التي حاصرت جيلي من الشعراء، فقد جاء ما سمي بجيل الستينيات ليواجه حصار الديمقراطية وأزمتها ووطأة هزيمة يونيو/حزيران، وانتفاض الأمة مرة أخرى فى حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، والقضايا الأخرى العاصفة التي مرت بها البلاد. ويرى أبو سنة أن التجريب كان عنصراً أساسياً فى حياته الأدبية، ففى كل مرحلة يسعى لتغيير الشكل والمضمون، يقول عن ذلك: ظل الشكل الفني يؤرقني سنوات، فطوال الوقت كنت أطرح تساؤلات على وجداني الداخلي: هل أستسلم للخطة الشعرية أم أخطط لبناء القصيدة بناءً فنياً؟ وهل أطارد الشعر أم أتركه يطاردني وظللت أيضاً مشغولاً بسؤال: من أين يأتي الشعر؟ فهناك أحداث تزلزلنا لكن الاستجابة لها شعرياً قد لا تحدث على الإطلاق، وهناك ومضات غامضة تظل تؤرقنا ثم تفاجئنا بقصائد لم نكن ندري عنها شيئاً، الشعر مفاجأة ولكنه لا ينبعث من العدم، إنه يقبل من تغطية الحواس والتعاطف مع الوجود والولع بالجمال والجهد المضني، فهو أشبه بالمطارحات الغرامية، لا بد أن يشعر الشعر بحبك له وقدرتك على التضحية من أجله. إن الشعر يعمل بطاقة الخيال، لكنه يتسم بدافع الوهم، يتوهم الشعراء أنهم يركضون وراء الحقيقة، لكن الحقيقة أقسى وأشد متعة من الإحاطة بها، لقد كانت تجربتي مع الشعر صراعاً مع الوجود الحر للكلمات، ومحاولة لاصطياد فراشات الشعر.