قضية للمناقشة بحثا عن نظام جديد فريدة النقاش مضت أكثر من ثلاثة عقود منذ انهيار الاتحاد السوفيتي وبلدان المنظومة الاشتراكية, ولكن انحسرت في السنوات الأخيرة مظاهر الفرح التي عمت الأوساط المناهضة للاشتراكية لأن البدائل التي جري طرحها لتحل محل الاشتراكية عجزت عن مواجهة المشكلات التي ترتبت على الانهيار, وأخذ العالم يبحث عن نظام جديد. وكانت الليبرالية الجديدة هي أبرز البدائل, والواقع أنها لم تكن جديدة في شيء إذ بقي منطلقها الأساسي هو سوق حرة دون ضوابط أو قيود, ولذلك اختار لها الاقتصاديون التقدميون وصف الرأسمالية المتوحشة بسبب ما ألحقته من أذى بالطبقة العاملة والطبقة الوسطى على حد سواء في كل مكان تقريبا. وخرجت الرأسمالية المتوحشة إلى الوجود ردًا علي أزمة كل النظم الاقتصادية التي كانت قائمة عشية الانهيار. فالرأسمالية القحة عجزت عن الوفاء بوعودها رغم كل التقدم الذي أنجزته من ميادين العلم وتقدم الإنتاج وتحقيق الوفرة. وخيبت الإشتراكية الآمال في التطبيق حين أطاحت بالديموقراطية في مقابل إنجازاتها في ميدان العدالة الاجتماعية. أما الاشتراكية الديموقراطية التي بدا أنها سوف تصالح الإشتراكية علي الديموقراطية فقد أخذت تنحدر ببطء إلى رأسمالية صريحة, وأصبحت الأزمة ثلاثية. وكان انهيار النظام الاشتراكي قد ساعد علي التعجيل بسقوط كل المنظومة الثلاثية التي كانت قد تبلورت علي الصعيد العالمي بعد الحرب العالمية الثانية, والتي توجها انتصار الاتحاد السوفيتي علي ألمانيا النازية آنذاك، وبرز إلى الوجود دور هذه المنظومة الثلاثية المكونة من الاتحاد السوفييتي ومعه البلدان الإشتراكية, وحركة التحرر الوطني في بلدان العالم الثالث كما سميت آنذاك, وقد تكللت بالنجاح الذي أنجزته ضد الاستعمار القديم, وقد أخذت تكافح ضد الاستعمار الجديد, ثم الضلع الثالث المتمثل في أحزاب الديموقراطية الاجتماعية في غرب أوروبا, وتعلقت آمال الشعوب بهذه المنظومة التي سرعان ما انهارت بدورها. كذلك كانت آمال القوى الديموقراطية في العالم قد انعقدت علي الإنجاز الكبير لأحزاب الديموقراطية الاجتماعية في شمال أوروبا بشكل خاص, وتفاءل بها الاشتراكيون في كل مكان لأنها تقدم حلا لإشكالية الديموقراطية في ظل الإشتراكية. وهي الإشكالية التي لا تزال تشغل المفكرين الإشتراكيين. وظلت تجربة "السويد" الاجتماعية الديموقراطية تشكل نقطة جذب ملهمة للقوي التقدمية و الاشتراكية في العالم كله لزمن طويل لأنها قدمت حلا عبقريا لمعضلة كانت قد واجهت الاشتراكيين في كل مكان واستخدمها نقاد الاشتراكية باعتبارها مرضا ملازما للاشتراكية لا شفاء منه، ألا وهي تغييب الديموقراطية. وظلت تجربة السويد- وحدها- نقطة جذب للقوى التقدمية والإشتراكية في العالم كله لزمن طويل, ولذا كان تراجعها ثم انهيارها بدورها حادثا مأساويا فاجعا بكل المعايير في سجل العمل الاشتراكي دعا الاشتراكيين في كل أنحاء العالم لمراجعة مسلماتهم المستقرة بحثا عن أفق جديد. قدمت مجلة "النيوليفت ريفيو" بحثا متعمقا عن التجربة كتبه "جوران ثيريورن" بعنوان "غسق الديموقراطية الاجتماعية في السويد" ملخصا للأزمة التي يواجهها كل من الفكر والممارسة للديموقراطية الاجتماعية علي الصعيد العالمي. توقف الباحث أمام الهزيمة الانتخابية للديموقراطيين الاجتماعيين في السويد رغم نجاحهم في الانتخابات, فبعد أن كانوا يحصلون علي 45% من الأصوات تراجعت أصواتهم إلى 28.3%. وكانت السويد قد أصبحت سيدة الديموقراطية الاجتماعية في العالم, اذ نجحت نجاحا لافتا في إجراء الاصلاحات وصولا إلى التشغيل الكامل دون أي بطالة, واقتصاد مفتوح ينافس علي الصعيد العالمي, مع دولة رفاة ومجتمع مساواة تطلعت إليه شعوب العالم, لكنه سرعان ما تعرض بدوره للأزمات. ورغم أن الأزمة ضربت الجميع, فقد راكمت البشرية تراثا عظيما في ميدان البحث عن العدالة, وعن أفضل توزيع للثروات, بينما تعاظمت قوة الرجعية والمحافظين وتحالف كبار الرأسماليين حفاظا علي مصالحهم المهددة, و اشتد الصراع علي الجبهات كافة. وكان الاشتراكيون قد اعتبروا انتصارهم نهائيا ولا رجعة فيه, ثم انخرطوا مجددا في الصراع من أجل نظام جديد يتأسس علي تراثهم العظيم الذي تجددت أفكاره, كما برزت أساليب وآليات جديدة في سياق هذا التجديد, وأصبح الوصول إلى القوى الشابة برؤاها الطازجة ومبادراتها المدهشة أحد الاهداف الرئيسية, بل وأخذ الفكر النظري حول الاشتراكية يراهن علي إبداع هذه القوة الشابة في كل من ميدان الفكر النظري والممارسة العملية. ويلفت النظر أن هناك الآن تنوعًا شديد الثراء في ميدان الفكر النظري حول الاشتراكية بعد حالة اللامبالاة التي أصابت غالبية السياسيين والنشطاء حين تعاملوا مع الأفكار النظرية باعتبارها ترفا تأمليا شائعا بين المثقفين, وما أحوجنا الآن للتعرف بعمق علي هذا الجديد الذي تنتجه منظمات وعقول فذة انشغلت دائما بمستقبل العدالة علي كل المستويات وفي كل البلدان, لتكون مثل هذه المعرفة إحدى أدواتنا للولوج إلى المستقبل.