حاولت وسعي أن تكون هذه الورقة بحثا موضوعيا لا مجرد مساهمة في إحياء ذكرى مؤسس حزبنا، وتقتضي الموضوعية العلمية أن يتخلى المرء عن مشاعره وتحيزاته الذاتية، وقد قمت في المراجعة النهائية بحذف الأوصاف التي قد يعدها البعض إطراء لصاحب الذكرى، وإذا وجد القارئ ما يبدو كأنه نوع من المدح أو المجاملة فهو عندي صفات موضوعية تشهد لها سيرة الرجل العظيم وتراثه الفكري. ليس أفضل الأساتذة هو الذي ينجح في نقل فكره إلى تلاميذه لينتج نسخا مكررة من نفسه، إنما أفضلهم هو ذلك الذي يكون فكره قادرا على النمو والتطور، فيتمكن السائرون على دربه من أن يستكملوا مسيرته، ويضيفوا إلى تراثه ما يجعله قادرا على مواجهة المتغيرات التي تستجد من بعده، وقد كان الأستاذ أحمد حسين رحمه الله واحدا من أفضل الأساتذة، وأرجو أن أكون قد وفقت في هذه الورقة لأن أكون واحدا من تلاميذه. ** كان أحمد حسين رحمه الله، بشهادة تاريخه وتراثه قبل شهادة معاصريه ورفاقه وتلاميذه، مصريا حتى النخاع، حمل في عقله ووجدانه تراث أمته وثقافتها، فامتلك بذلك حسًا سياسيًّا أكثر تقدما مقارنة بالمستوى الفكري للحركة الوطنية المصرية في ثلاثينيات القرن العشرين، وسأحاول في هذه الورقة أن ألفت الانتباه إلى أهمية مساهمته في واحد من الملفات التي كان هو أول من فتحها.. ملف الاعتماد على الجماهير في بناء اقتصاد وطني مستقل.. وهو الملف الذي لم تنجح الحركة الوطنية المصرية حتى الآن في بلورة تصور متكامل لكيفية إنجاز المهام التي يطرحها، ناهيك بالطبع أن تتمكن من الحركة لتنفيذه. لو لم يكن مشروع القرش إلا شاهدا على إدراك أحمد حسين لأهمية الكفاح من أجل تحقيق الاستقلال الاقتصادي جنبا إلى جنب مع الاستقلال السياسي لكان كافيا للبرهنة على نضجه الفكري في هذه المرحلة المبكرة من عمره، لكني أراه أكثر من ذلك. لقد كان لطلعت حرب وتجربته في بنك مصر فضل السبق في التفكير في بناء القاعدة الاقتصادية المصرية المستقلة، لكن فكرة طلعت حرب، مع تقديرنا الشديد لقيمتها ونتائجها، كانت تعتمد على مدخرات الطبقة العليا والطبقة الوسطى، فهؤلاء هم الذين يتعاملون مع البنوك ويمكنهم تقديم الرأسمال الكافي لنجاح بنك تجاري تقليدي، وهم وحدهم القادرون على إنشاء المشروعات التي يمكنها الاستفادة من قدرات البنوك على التمويل، ويمكنهم الوفاء بالشروط المطلوبة للحصول على القروض، ومهما حاولنا فإن السيطرة على البنك – أي بنك – ستكون دائما لكبار الممولين، فهم الذين سيشكلون مجالس الإدارة وسيكونون كبار العملاء، وهؤلاء لن يكون الاستقلال الاقتصادي ضمن أولوياتهم، وفي أحيان كثيرة سيكون متعارضا مع مصالحهم، فتحقيق التراكم الرأسمالي في أي دولة محتلة، أو تابعة، لن يتيسر إلا لمن ترتبط أعمالهم بالاحتكارات الأجنبية، شركاء ووكلاء ووسطاء، وأغلب هؤلاء سيصيبهم الضرر من الاستقلال الاقتصادي، أو على الأقل لا فائدة ترجى لهم منه، وليسوا على استعداد للتضحية من أجله.. هذا ما أثبتته تجربة طلعت حرب، فكانت نهايتها المؤلمة في الأربعينات، وأكدته تجربتنا المعاصرة في الربع الأخير من القرن العشرين، عندما أفرز نظام كامب ديفيد مجموعة من كبار رجال الأعمال اصطفوا كلهم في خندق الثورة المضادة، ووقفوا موقفا يتعارض مع مصالح الأمة في بناء مسارها الديمقراطي المستقل.. مولوا الانقلاب ومهدوا له ودعموه عندما قام. لذلك لم يتوجه مشروع القرش إلى أصحاب الأموال الراغبين في استثمارها، بل توجه إلى جموع الشعب المطحون يطلب من كل واحد ولو قرش، وهذا كان يتطلب أن تشرح لهم أهمية الاستقلال الاقتصادي لبناء أمة مستقلة حقا، وضرورة الاعتماد على الذات وعدم الركون إلى كبار الرأسماليين وأصحاب الأعمال في تحقيق هذه المهمة، فالقضية ليست قضية استثمار بهدف الربح، لكنه جهاد لبناء المستقبل. لا يمكننا الزعم بأن الأستاذ أحمد حسين قد قام بتحليل لطبيعة القوى الاقتصادية ومصالحها كي يتوصل إلى أهمية مشروع القرش، فهو على الأرجح قد أدرك أهمية الاعتماد على الجماهير بحسه السياسي الثوري لا بالتنظير الاقتصادي، ومهما كان الأمر فقد كان هذا المنطق نقلة كبيرة في الفكر الوطني، وعندما ننظر إليها الآن وبعد مرور حوالي ثمانية عقود نعرف إلى أي مدى كان فكره، وما زال حتى الآن، سابقا للفكر التنموي المصري، فخلال عام كامل من حكم الرئيس مرسي لم نسمع إلا عن جذب الاستثمارات الأجنبية وتشجيع القطاع الخاص المحلي.. لقد افتقر نظام الرئيس مرسي – فك الله أسره – إلى إدراك أهمية ما نادى به أحمد حسين في ثلاثينيات القرن العشرين. من الواضح أن اختيار مصنع الطرابيش كانت له قيمته الرمزية الاجتماعية والسياسية، لكنه من وجهة نظر تنموية اقتصادية لم يكن البداية الموفقة.. لا يمكننا أن نلوم الشاب أحمد حسين، خريج كلية الحقوق، على أنه لم يعرف ما لم يكن يعرفه علماء الاقتصاد وقتها، فالفكر الاقتصادي لم يبدأ في بحث قضايا التنمية في دول العالم الثالث إلا في الستينات، ولم يبدأ الكلام عن التكنولوجيا الملائمة والروابط الأمامية والروابط الخلفية.. إلخ إلا في أواخر السبعينات.. ما يهمنا في هذه التجربة ليس نتائجها الاقتصادية، فقيمتها تكمن في الخلفية الفكرية التي أنتجتها، وفي حقيقة أن الجماهير قد فهمت فعلا الرسالة وتجاوبت معها.. لقد اعتمد المشروع على أساس فكري تنموي سليم، وهو الذي اعتمدت عليه أغلب التجارب الناجحة في دول العالم الثالث، ولا يقدح في سلامة الفكرة أن المتطلبات الفنية اللازمة لنجاحها قد غابت عن مجموعة الشباب التي بذلت جهدا خرافيا للوصول إلى مصنع الطرابيش. نحن الآن، وبعد عقود من التجربة والخطأ في محاولات التنمية المستقلة في دول العالم الثالث، أصبحنا نعرف أن التنمية يجب أن تعتمد على تكنولوجيا تكون مدخلاتها المستوردة – الآلات والمواد الخام – في حدها الأدنى، وأن نختار صناعة نمتلك فيها ميزة نسبية، وتعتمد على وفرة الأيدي العاملة الرخيصة أكثر مما تحتاج لعمالة مدربة تدريبا راقيا، وأن يكون لها القدرة على تشجيع نمو عدد من الصناعات المغذية، وأن يكون في قدرتنا أن نطور التكنولوجيا المستخدمة فيها بقدراتنا الذاتية دون أن نحتاج للاعتماد الدائم على استيراد المعدات.. وتفاصيل أخرى كثيرة هي في الواقع نتيجة تجارب التنمية في عديد من دول العالم الثالث، ولم يكن هذا كله متاحا بالطبع عند اتخاذ القرار باستخدام القروش التي جمعوها في إنشاء مصنع للطرابيش. ** يبدو أن النتائج المتواضعة لمشروع القرش أدت إلى أن يعيد شباب مصر الفتاة التفكير في الوسيلة التي يمكن بها تحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة، ومن الواضح أنهم لم يدركوا أن فكرتهم كانت سليمة، وأن ما يحتاج إلى البحث هو كيفية تنفيذها لتكون فعالة وتؤتي ثمارها (نقصد فكرة الاعتماد على الجهود الذاتية للجماهير، لا فكرة إنشاء مصنع للطرابيش)، وهداهم تفكيرهم إلى تبني الاشتراكية.. لم أجد في المصادر التي رجعت إليها ذكرا للتحليل الذي أوصلهم للاشتراكية، لكن أحسب أننا قادرون على التخمين بالاستناد إلى ما نعرفه عن منطق مصر الفتاة في التعامل مع قضية الاستقلال. حتى نهاية السبعينات لم يكن الفكر الإسلامي المعاصر قد وصل إلى أن المجتمع المسلم سيفرز نظامه الاقتصادي الخاص (وقتها بدأت المحاولات الرائدة للأستاذ عادل حسين رحمه الله)، في العقدين السابقين – الخمسينات والستينات - كان بعض المفكرين الإسلاميين يوجهون سهام النقد إلى الفكر الرأسمالي ويحدثوننا عن اشتراكية الإسلام، وبعضهم الآخر يعترض على الاشتراكية لعلاقتها بالفلسفة الماركسية، ويرون أن النظام الرأسمالي يمكن تنقيته من المخالفات الشرعية وتطعيمه ببعض متطلبات العدالة الاجتماعية، وقد شجعهم على ذلك نظم دولة الرفاة التي نجحت في ألمانيا وفرنسا والسويد في تلطيف غلواء الرأسمالية المتوحشة.. وصاحب ذلك إرهاصات تنبئ عن أن بعض المفكرين المسلمين قد انتبهوا إلى أن الأسس الفلسفية لكلا النظامين تتعارض مع الإسلام، نجد هذا عند مالك بن نبي في كتابه "المسلم في عالم الاقتصاد"، وعند محمد باقر صدر في "اقتصادنا"، وعند الدكتور حامد ربيع في مقدمته لتحقيق "سلوك المالك في تدبير الممالك"؛ حيث أكد وكرر أن القيمة العليا في الرأسمالية هي الحرية، والقيمة العليا في الاشتراكية هي المساواة، أما في الإسلام فالقيمة العليا هي: العدل.. لكن هذا كله كان أولا تجريدا عقليا لا يمكن أن ينتج عنه بشكل مباشر أية برامج عملية، وكان ثانيا في الخمسينات والستينات، بعد أن توقفت تجربة حزب مصر الاشتراكي بعد وصول الضباط الأحرار للسلطة. ولكن كان واضحا في الأربعينات أن الطبقة القادرة على قيادة التنمية الرأسمالية في مصر، حتى لو وصلنا إلى نسخة إسلامية من الرأسمالية، ستكون هي نفسها الطبقة المتحالفة مع الاستعمار والسراي، والمعادية – إن لم يكن بالخطاب المعلن فبالممارسة العملية – للنضال الثوري، فحتى هؤلاء الذين كانوا منهم ما يزالون يدندنون بالكلام عن الاستقلال لا يحيدون عن فكرة التفاوض مع المستعمر والنضال البرلماني في ظل حكم ملكي فاسد.. بدا جليا ألا أمل في هؤلاء. ومن جهة أخرى فإن كل التجارب الرأسمالية قد أدت في الغرب إلى تركز الثروة وسيطرة الاحتكارات الكبيرة، ولم تأل الدعاية الشيوعية جهدا في توضيح أن هذا ليس وضعا عارضا، بل تطور هو حتمي ناتج عن طبيعة النظام الرأسمالي نفسه.. لم تكن مصر الفتاة وحدها هي التي فقدت الأمل في الحل الرأسمالي، فقد كان هذا حال العديد من القوى الثورية المصرية، عبر عن نفسه عند شباب الوفد وفي كتابات سيد قطب وفي نمو الحركة الماركسية.. في هذا المناخ الفكري كان معنى المطالبة بالاستقلال دون الاهتمام بطبيعة المجتمع الذي نريد بناءه بعد الاستقلال هو أن تقع مصر المستقلة فريسة في براثن الرأسمالية المصرية المتحالفة مع المستعمر. في نفس الوقت كانت تجربة الاتحاد السوفيتي قد نجحت في تحويل مجتمع إقطاعي يقف على أعتاب التصنيع عند قيام الثورة البلشفية إلى مجتمع صناعي قوي ومتقدم خرج من الحرب العالمية الثانية يناطح الولاياتالمتحدة ويتبوأ مكانه باعتباره القطب الثاني في الصراع الدولي، كان هذا مغريا بدراسة تجربته. باءت محاولة الانتقال السريع إلى الشيوعية بعد ثورة 1917 بالفشل الذريع، فاضطر لينين في 1921 إلى إعادة صياغة برنامجه، معترفا بأن عليه أن يبني القاعدة الصناعية قبل تأسيس المجتمع الشيوعي، مبررا ذلك بأن الحوافز الفردية الرأسمالية ليست سيئة إلا بالنسبة للشيوعية، لكنها في مجتمع إقطاعي ستكون وسيلة جيدة لتحقيق التنمية، لكنه لا يستطيع ترك الزمام للرأسماليين، لذلك قال إن المهمة الأولى للحزب الشيوعي هي بناء الاشتراكية أولا كي يتمكنوا من بناء قاعدة صناعية قوية تمكنهم من الانتقال للشيوعية.. والواقع أن التكييف الاقتصادي الصحيح لما أسماه لينين، ثم ستالين من بعده، الاشتراكية هو أنها كانت رأسمالية الدولة.. أي أن الدولة أصبحت هي المالك الفعلي وصاحب العمل وليس الشعب، فالشعب في رأسمالية الدولة مازال يعمل أجيرا ولا يمارس حقوق المالك، صحيح أن الدولة لن تستغل العمال – هكذا قالوا – وأن التراكم الرأسمالي سيعود في النهاية إلى الشعب عندما تتحقق التنمية.. لكن هذا النظام يقتل الإبداع والمبادرات الفردية التي كانت دوما هي قاطرة التقدم، كما يرسخ ديكتاتورية النظم الحاكمة ويقمع كل معارضة، لكن هذه المشاكل لم تكن واضحة في البداية، فلم يكن السوفيت في حاجة للإبداع، كانت الفجوة بينهم وبين الغرب كبيرة، فكانوا ينقلون منه التكنولوجيا ويقيمون بها نهضتهم الصناعية، لكن الأساس الفكري الهش لهذه النهضة أدى لانهيارها بشكل درامي في التسعينات. نحن الآن نفهم أن رأسمالية الدولة لا تتفق مع الفكر الإسلامي، فحقيقة أن كل تفصيلة من تفاصيل النظام يمكن أن نجد لها تخريجا فقهيا ولو من باب المصالح المرسلة وسد الذرائع والضرورات.. إلخ، لا تعني أن البناء المتكامل الذي سينشأ من وضع كل هذه التفاصيل بجوار بعضها سيكون محققا لمقاصد الشريعة، وهذه ليست حالة فريدة، لكن المفكرون المسلمون لم يكونوا قد انتبهوا لها بعد، ولم يكن هذا هو حال مصر الفتاة وحدها، فمصطفى السباعي ومحمد الغزالي كتبا عن اشتراكية الإسلام، وسيد قطب في كتابه "معركة الإسلام والرأسمالية" يتبنى عناصر رأسمالية الدولة دون أن يستخدم في وصفها اسم "الاشتراكية"، والفرق بينه وبين الأستاذ أحمد حسين هو أن الأخير لم يجد مانعا من تسمية برنامجه بالاشتراكي، فالناس تعرف ما هي الاشتراكية، وتعرف أن الاشتراكية ليست هي الشيوعية، أما سيد قطب فقد نبذ الاسم واحتفظ بالمسمى.. كان هذا مقبولا تماما في الأربعينات والخمسينات، فلم تكن عيوب رأسمالية الدولة قد اتضحت، كما أن الفكر الإسلامي لم تكن ملامحة قد تبلورت بعد، كل ما كان معروفا لقادة الحركة الإسلامية وقتها هو أن الإسلام ليس رأسماليا – وبرغم ذلك فبعدها بستة عقود تجاهل برنامج الإخوان بعد ثورة يناير هذه الحقيقة – وفي نفس الوقت ليس شيوعيا. ** تحولت مصر الفتاة إذن إلى حزب مصر الاشتراكي، ورغم أننا نرى أن هذا التحول كان خطوة إلى الوراء مقارنة بفلسفة مشروع القرش التي بدأ بها أحمد حسين، فإنه ما يزال يحمل توجها اقتصاديا أكثر نضجا ومراعاة للأبغاد الاجتماعية للتنمية المستقلة مما كان لدى سائر حركات الإحياء الإسلامي في الأربعينات، عدا، في رأينا، فكر سيد قطب رحمه الله، والذي كان فكرا شخصيا له ولم تتبنه الحركة التي انتمى إليها، وذلك إذا أخذنا في الاعتبار أن الفكر الاقتصادي لم يكن يطرح أي طريق ثالث للاستقلال الاقتصادي. وكانت أهم عناصر البرنامج الاشتراكي الذي أعلنه أحمد حسين في 1949 تتمثل في تحديد الملكية الزراعية بخمسين فدانا وتوزيع الزيادة على الفلاحين (الإصلاح الزراعي)، وتأميم المشروعات الكبرى وتوسع الدولة في إنشاء المزيد، بهدف تحقيق ملكية الشعب لوسائل الإنتاج الرئيسية وترسيخ تقاليد العمل الجماعي محل الحوافز الفردية للمنافية على الربح، وإعادة توزيع الثروة بحيث يكون الحد الأقصى لدخل الفرد 5000 جنيه في السنة والأدنى 300 جنيه، وأن يتم ذلك في إطار تخطيط شامل تقوم به الدولة.. ورغم كل هذه الملامح الاشتراكية التي نلمح فيها الثقة في فاعلية المنهج السوفيتي للتنمية، فإن الحزب أكد في برنامجه وفي ممارسته وإنتاجه الفكري على عمق التزامه الإسلامي.. لقد تكرر هذا في عدد من تجارب حركات التحرر في العالم الثالث: أن تقرن حركة التحرر نضالها السياسي ببرنامج اقتصادي يأخذ من الاشتراكية السوفيتية أهم الخطوات العملية مع سلخها عن خلفيتها الفلسفية الماركسية، وبعد تردد قصير رحب الاتحاد السوفياتي بهذا التوجه ودعمه باعتباره في التحليل توجها مناهضا لخصمه اللدود المتمثل في الرأسماليات الغربية، وأنا لا أعرف حركة تحرر تبنت هذا التوجه (الذي أطلق عليه في الأدبيات اليسارية "الطريق الرأسمالي للتنمية") قبل مصر الفتاة. سنلاحظ أن حركة الضباط الأحرار تبنت أهم عناصر برنامج الحزب الاشتراكي (لا أقصد الأهداف الستة للحركة، لكني أتكلم عن الأهداف العملية التي تنباها النظام الناصري، وإذا لم تصدق أنه تبناها بإخلاص فلنقل أنها كانت الشعارات التي رفعها وبرر بها كل ممارساته) ولم تترك منه إلا الديمقراطية، لتأخذ من حسن البنا فكرة إلغاء الأحزاب وبناء الهيئة الوطنية الواحدة التي تجمع كل القوى السياسية، وكانت هذه فرصة جيدة ليرقب الأستاذ أحمد حسين رحمه الله نتائج تطبيق الأفكار التي كان هو من أوائل من نادوا بها (إن لم يكن هو الأول). لا أعرف إن كان الأستاذ قد دون مراجعاته لنتائج التطبيق أم لا، لكني استمعت من الأستاذ عادل حسين إلى طرفا من الحوارات التي دارت بينهما بعد خروجه من معتقل الواحات (خروج الأستاذ عادل في سنة 1965)، ومن الغريب أن تشخيصه لعيوب ومشاكل النموذج السوفياتي للتنمية (رأسمالية الدولة) والتنويعات المختلفة عليه يكاد يكون هو نفسه ما وصلت إليه مراجعات حركة اليسار الجديد في أوروبا بعده بعقد كامل، وهو سبق آخر لفكر الأستاذ أحمد حسين، لكن الحلول التي اقترحها كانت تسير في اتجاه يبتعد عما وصل إليه اليسار الجديد.. فقد كان أحمد حسين يتكلم عن الاشتراكية باعتبارها هي عدالة الإسلام الاجتماعية، وإذا كانت التجربة العملية قد أثبتت أن البرنامج الذي ظننا في البداية أنه قد يكون صالحا للوصول إلى هذه العدالة لم يكن بالفعالية التي تصورناها، وأن له أعراضا جانبية ضرها أكبر من نفعها، فإن الحلول موجودة في الإسلام أيضا. لقد واصل الأستاذ عادل حسين رحمه الله تأطير وتنظير هذه الأفكار بعد رحيل شقيقه الأكبر، ولم تكن قد اكتملت عنده عندما كتب كتابه القيم "الاقتصاد المصري من الاستقلال للتبعية"، لكننا سنجدها مبثوثة في مقالاته وأبحاثه التالية، ونحن في حاجة لتحريرها وتنسيق عرضها، فهي في الواقع التأطير النظري للمبادئ التي قام عليها مشروع القرش بعد أن أنضجتها التجارب التطبيقية عندنا وعند غيرنا، وهذه مهمة تضيق عنها هذه الورقة. نسأل الله العلي القدير أن يتقبل جهاد أستاذنا الجليل وأن يوفقنا للسير على دربه واستكمال ما بدأه.. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. ******