*مارك مجدي يجمع المراقبون على أن فترة ولاية "جو بايدن" ستكون أصعب بكثير من فترات عمل الرؤساء السابقين, خاصة في ظل الإرث الثقيل الذي تركه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. ف"جو بايدن", هذا السياسي الذي يوصف بشكل عام أنه سياسي تقليدي, يتولي رئاسة الولاياتالمتحدة في ظل مجتمع منقسم من الداخل وأوضاع عالمية جديدة علي رأسها جائحة كورونا ومنافسة صينية صاعدة دون توقف, وكوكب يعاني من أكبر أزمة بيئية عرفتها البشرية. الانقسام الداخلي في أحدث استطلاع ل npr / PBS NewsHour / Marist ، قال 75 ٪ من الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع أنهم يعتقدون أن الولاياتالمتحدة تسير في الاتجاه الخاطئ، وهو مستوي غير مسبوق من التشاؤمية في تاريخ هذا المؤشر. وفي إطار التنافسية الحزبية وفي أعقاب فوز بايدن، ازدادت التوقعات السلبية بالنسبة للجمهوريين على وجه الخصوص. وبينما رفض تسعة من كل 10 ديمقراطيين سياسات إدارة ترامب, يظن 8 من كل 10 جمهوريين أن ترامب كان رئيساً جيداً. وفي اللحظة الراهنة لا يعتقد 7 من كل 10 جمهوريين أن الرئيس بايدن قد تم انتخابه بشكل شرعي. ووفقاً لموشر جالوب Gallup يعتقد الأمريكيون من البيض والسود أن العلاقات فيما بينهم ليست جيدة بالقدر الكافي, ف 46% فقط من البيض يعتقدون أن العلاقات جيدة بين العنصرين, بينما عبر 36% فقط من السود عن رضاهم عن هذه العلاقة. ترصد الأرقام حالة انقسام حاد بين الأمريكيين حول قضايا عدة, تتمثل في شكلها الأخير, في الخلاف العميق بين مؤيدي ترامب ومؤيدي بايدن, وبين صفوف كل معسكر يوجد متطرفون راديكاليون يرهن كل فريق منهما وجوده بهيمنته علي الأخر. فنجد بين مؤيدي ترامب حركات التفوق العنصري المؤمنة بالمؤامرة الكبري والتي تتسم بطابع شوفيني وطني وعرقي عنيف, وعلي الجانب الأخر نجد حركات مناهضة التمييز العنصري التي أصبحت تحمل تطلعات سياسية تطمح في تغيير النظام السياسي الأمريكي بالكامل, كما يشهد الحزب الديمقراطي صعودا للاتجاه الاشتراكي بين سياسيه وأعضائه بقيادة بيرني ساندرز, وهو تيار يذهب بمعارضة الجمهوريين إلى الحد الذي يجعله يشكك في النظام السياسي والاقتصادي الأمريكي القائم ككل, وهو ما يضع بايدن وتوجهه الليبرالي التقليدي تحت ضغط مستمر قادم من داخل أروقة حزبه الديمقراطي. فهذا الانقسام الحاد بين أطياف المجتمع الأمريكي يقوم علي أساس التناقضات الحية في المجتمع التي يبدو أنها ظهرت علي الساحة دون رجعة, وهي جميعها تشير إلى أزمة النظام السياسي في الولاياتالمتحدة الذي تجتمع هذه الفئات الراديكالية المتناقضة علي عدم الثقة فيه. يشكل انقسام الداخل الأمريكي التحدي الأكبر الذي سيواجه صناع السياسة الأمريكيين خلال عام 2021، وما بعده. فما لم تجد الإدارة الأمريكية الجديدة حلّا وسطًا يمكنها من إحداث قدر من التوافق المبدئي بين الحزبين الكبيرين، واستعادة الثقة في مؤسساته, وما لم يحدث ذلك فإن الولاياتالمتحدة ستفتقر إلى الأساس الذي من خلاله تستطيع أن تستعيد دورها كقائد في النظام العالمي الجديد في ظل وجود القوى الصاعدة المختلفة حول العالم. اقتصاد وصحة في أبريل من العام الماضي فقد الاقتصاد الأمريكي ما يقرب من 21 مليون فرصة عمل، مع دخول الأمريكيين في الإغلاق الصحي. وما أن بدأ الاقتصاد يتعافي، تعثر الاقتصاد الأمريكي مرة أخرة مع عودة الاغلاق نتيجة لانتشار فيروس كورونا مرة أخري مع فصل الشتاء, وفُقدت 140,000 وظيفة, ليصبح معدل البطالة في الولاياتالمتحدة 6,7% وهو معدل مرتفع للغاية بالنسبة لوضع الاقتصاد الأمريكي. وهذا في إطار انخفض الناتج المحلي الإجمالي السنوي إلى32.9 ٪ ، وهو أعمق انخفاض منذ أن بدأ التسجيل في عام 1947. ويأتي ذلك فى ظل إصابة 24 مليون أمريكي بفيروس كورونا ووفاة أكثر من 400 ألف. يتوقع معهد المقاييس الصحية والتقييم الأمريكي أن عدد الوفيات سيرتفع إلى 566,000 أمريكي بحلول يوم 1 مايو. وقد اقترح بايدن أن تتم وضع معايير وقاية صحية عامة تطبق علي المواطنين في هذا الإطار, كما تعهد أثناء فترة حملته الانتخابية باقرار حزمة من الإجراءات الاقتصادية لمساعدة المواطنين عبر الاعانات المالية المباشرة التي من المتوقع أنها ستكلف الاقتصاد الأمريكي ما يزيد عن 30 مليار دولار, وهي سياسة لاقت كثيرا من الانتقادات خصوصاً في التأثير الذي ستمارسه علي معدلات التضخم الاقتصادي. ما هي الاستراتيجية التي سيتبعها بايدن في حال فشل الاجراءات المقترحة في احتواء انتشار الفيروس في ظل عدم قدرة الاقتصاد الأمريكي علي الإغلاق الشامل مرةً أخري؟ . كما يجب الإشارة لخسارة الاقتصاد الأمريكي لحوالي 16 مليار دولار في العام الماضي فقط بسبب الكوارث البيئية من الحرائق إلى الأعاصير, وهو ما يثير نقطة التغيير المناخي التي ركزت دعاية ترامب السلبية عليه بانكار وجود تغيير مناخي يؤدي لاحتباس حراري يغير درجة حرارة الكوكب. وقد قام بايدن في يومه الأول كرئيس بإعادة الولاياتالمتحدة إلى إطار اتفاقية باريس للحد من التغييرات المناخية, التي من شأنها أن تؤثر سلباً علي الاقتصاد الأمريكي وفقاً لآراء تيار كبير من الجمهوريين, عبر تقويد الصناعة وانفاق الأموال علي اجراءات خفض التلوث البيئي وانبعاثات الغاز. المنافسة الصينية تشكل الصين التحدي الدولي الأكبر بالنسبة للولايات المتحدة. فعلى عكس الاتحاد السوفيتي السابق والذي كان معزولًا اقتصاديًا ومقيدا من الناحية التكنولوجية, فإن الوضع التنافسي الحالي مع بكين، وما تمتلكه من الموارد اللازمة لتنمو بشكل أكبر وأسرع وأقوى من واشنطن؛ قد يفرض على الرئيس القادم وضع استراتيجية متكاملة في مواجهة ذلك الصعود الصيني الذي سيغير شكل النظام العالمي. فباستخدام أفضل المعايير والمؤشرات الدولية لمقارنة الاقتصادات الوطنية، نجد أن الصين أصبحت بالفعل أكبر اقتصاد في العالم. بالشكل الذي يجعلها ربما تكون قد حلت محل الولاياتالمتحدة باعتبارها المحرك الأساسي للنمو العالمي. كما أنه من بين جميع الاقتصادات الرئيسية، تعد الصين هي الوحيدة التي حققت أكبر معدل للنمو الاقتصادي في نهاية عام 2020، وذلك مقارنة بما كان عليه الوضع مع بداية العام. كما أصبحت الصين منافسًا حقيقياً للولايات المتحدةالأمريكية في المجال التكنولوجي، بل إن أغلب التوقعات تذهب إلى أن النزاع التجاري بين الولاياتالمتحدةوالصين سيأخذ منحى آخر، بحيث ينتقل النزاع من التجارة إلى التكنولوجيا. ويعد الذكاء الاصطناعي من المجالات الأكثر احتمالًا لأن تشهد منافسة حادة بين الجانبين، هذا إلى جانب ما حققته الصين من خطوات متقدمة في مجال شبكات الجيل الخامس (5G)، وانعكاس ذلك على تكنولوجيا الاتصالات والخدمات المالية. ويجب الإشارة هنا إلى أن مسألة الجيل الخامس من الاتصالات تعتبر مسألة حاسمة فيما يتعلق بالأمن المعلوماتي لكافة البلدان حول العالم, فمن المعروف أن من سيتمكن من بناء هذه الشبكات في أي دولة يصبح لديه القدرة علي معرفة حركة البيانات وتحرك الأفراد فيها. ولقد قطعت الصين الكثير من الأشواط في هذا الاتجاه لتسبق الأمريكيين والأوربيين فيما يتعلق بالتمويل والقدرة البشرية والمعرفة العلمية اللازمة لتنفيذ هذا المشروع حول العالم. كذلك سيكون للتكنولوجيا التأثير الأكبر على الاقتصاد والأمن القومي خلال العقد المقبل، ومن ثم فإنه في حين فرضت إدارة "ترامب" قيودًا صارمة على وصول الصينيين إلى أشباه الموصلات المتقدمة؛ إلا أن حجم السكان الكبير والمراقبة الصارمة علي المجتمع في الصين ستمنحها دائماً المزيد من البيانات لتغذية التقدم في مجال التعلم الآلي حسب جريدة الفورين بوليسي الأمريكية. الشرق الأوسط فوفقاً للافتراضات القائمة على الخلفية الديمقراطية الليبرالية لصانعي السياسة الأمريكيين في إدارتي "جورج دبليو بوش" و"باراك أوباما"، كان هناك توقع بأن الإطاحة بالحكام "المستبدين" في العراق وليبيا سيولّد أنظمة ديمقراطية في تلك الدول بشكل تلقائي. لكن خرج الوضع عن السيطرة وأصبحت التنظيمات الدينية تشكل خطراً علي أمن المنطقة وتهدد ترتيبات حلفاء الولاياتالمتحدة الاستراتيجيين فيها. كما فشل رهان الحزب الديمقراطي علي ما يسمي بالإسلاميين المعتدلين في المنطقة بعد أن سقط نظام الإخوان المسلمين في مصر, والمواقف الخليجية التي باتت معادية لهذا الاتجاه, بالإضافة للوضع الصعب الذي يشهده تنظيم الاخوان المسلمين في بعض الدول العربية الأخري. فيبدو أن استراتيجية الدفع بالتنظيمات الدينية المعتدلة في مواجهة الأنظمة العربية أصبحت استراتيجية فاشلة, ما الاستراتيجية التي يمكن لبايدن أن يتبعها في ظل هذه المتغيرات إذاً؟ لم تتكشف الإجابة علي هذا السؤال الصعب بالنسبة لبايدن, علي الأقل في إطار ما صرح به خلال حملته الانتخابية. لكن يتضح أن الخطاب الحقوقي الذي يتبناه بايدن في مواجهة كل من أنظمة مصر والخليج سيضع العراقيل أمام علاقة الولاياتالمتحدة بهذه الدول في الفترة المقبلة. ثقة الحلفاء تهتز ووفقاً لمؤشرات npr, أدت سياسات ترامب تجاه حلفاء الولاياتالمتحدة التاريخيين إلى اهتزاز ثقة مواطنين من المملكة المتحدة وفرنسا وألمانياواليابان, فيشير المؤشر إلى أن 35% من مواطني هذه الدول قد اعربوا عن ثقتهم بالسياسة الأمريكية الخارجية في قيادة العالم. ويجدر الإشارة هنا إلى أنه مع بزوغ نجم العولمة أصبح للعامل الاقتصادي أهميته بدرجة تماثل القوة العسكرية. ومن ثم، كانت محاولة إدارة "ترامب" في إطار الصراع مع الصين بإقناع الحلفاء بالاختيار بين العلاقة الأمنية مع الولاياتالمتحدة أو العلاقة الاقتصادية مع الصين بمثابة خطأ استراتيجي كبير. فبكين حاليًا هي ورشة التصنيع الأولى في العالم، والشريك التجاري الأول لمعظم الدول، بما في ذلك اليابان وأستراليا وحتى ألمانيا. وقد تعمقت الصين خلال السنوات الماضية في كيفية استغلال الأدوات الجيواقتصادية وتوظيفها لصالح تحقيق الأهداف الخاصة بها. وقد تضاعفت أهمية الصين الاقتصادية خلال الآونة الأخيرة بالنسبة للأعداء والحلفاء. ومن ثم، فقد يصطف الحلفاء إلى جانب الولاياتالمتحدة ضد الصين، فيما يتعلق ببعض القضايا الأمنية، بينما يصبحون أكثر تشابكًا مع الصين في القضايا الاقتصادية. وليس أدل على ذلك من توقيع اتفاقية الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة (R.C.E.P)، التي تعد واحدة من أكبر الصفقات التجارية في التاريخ، حيث يعمل هذا الاتفاق على إنشاء منطقة تجارة حرة بين (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، ودول رابطة الآسيان العشرة، وأستراليا، ونيوزيلندا)، وذلك سعياً لتقليص الحواجز التجارية بين هذه الدول، وهو ما يخلق إطاراً مشتركًا للتعاون الاقتصادي بينها. وينطبق الأمر ذاته -بدرجة أو بأخرى- على توقيع اتفاق التجارة والاستثمار بين الصين والاتحاد الأوروبي، وهو ما يسمح بالنفاذ التجاري والاستثماري بينهما. بذلك تصبح قضية تحسين العلاقة مع حلفاء الولاياتالمتحدة حول العالم مسألة أولية بالنسبة لإدارة بايدن, التي تصل إلى الحكم في ظل متغيرات عالمية كثيرة يصعب التعامل معها علي المدي القصير.