فى أقصى الجنوب يقف شامخا شاهدا على ملحمة من الكفاح سطرتها سواعد المصريين، حاكيا قصة شعب هزم التحديات لاستعادة إرادته، إذ لم يكن مجرد خيال بل كان الأمل لبناء مصر، إنه السد العالى. حكاية بدأت بوضع حجر الأساس سنة 1960، وكُلّلت بفرحة تحويل مجرى النيل فى 14 مايو سنة 1964، ثمّ افتتاحه سنة 1970، وما زالت ممتدة حتى الآن، لنعيش جزءًا من التاريخ الذى جسد ملحمة قومية شارك فيها آلاف المصريين، وضحى فيها آخرون بأرواحهم فى سبيل بناء مشروع قومى يخدم مصرعلى مر العصور، وتأتى الذكرى" اليوبيل الذهبى"، لتعيد إلى الأذهان هذا المشروع العظيم الذى ظل ساترا منيعا لمصر، وشاهدا على قدرة الشعب على اجتياز الصعاب، صامدا تروى أحجاره وصخوره التضحيات وما سطرته الدماء والعرق من أجل ملحمة البناء. مشروع قومي كان مشروع السد العالى مشروعا قوميا، لكنه كان يفوق إمكانيات مصر فى التمويل والقدرة التكنولوجية، واستخدم فى بنائه 43 مليون متر مكعب من الصخور والرمال، وهو من أعظم السدود الركامية فى العالم، ويبلغ طوله 3820 متراً، منها 520 متراً مسافة بين ضفتى النهر والباقى على شكل جناحين، الأيمن بالضفة الشرقية بطول 2550 متراً، والأيسر بالضفة الغربية بطول 750 متراً، وعرضه عند القاع 980 متراً ليتدرج على هيئة هرم حتى يصل عند القمة إلى 40 متراً ويبلغ ارتفاع السد 111 متراً فوق قاع النهر بين منسوبى 85 و196 متراً. وشاركت فى بناء السد 3 جهات، الهيئة العامة لبناء السد العالى، وشركة مصر لأعمال الأسمنت المسلح، وشركة المقاولون العرب "عثمان أحمد عثمان"، بمعاونة خبراء ومهندسين وفنيين من الاتحاد السوفيتى، إلى جانب مساهمة القوات المسلحة فى دعم الإمدادات الطبية والمعدات والتموين، وكذلك وزارة النقل التى قامت بإنشاء خط سكة حديد لنقل العمال والمعدات إلى الموقع، كما تولت شركات المقاولات إنشاء المقار السكنية للعاملين والمرافق وشبكات الطرق، ويعتبر السد العالى عملا هندسيا وإنجازا تاريخيا وإعجازا، ومن أفضل 10 مشروعات فى العالم أنشئت خلال القرن ال 20، ويتم تدريسه ومناقشته فى الاحتفالات والمحافل الدولية والعلمية، إذ يعد سدا ركاميا ترابيا، وهذه النوعية من السدود ليست شائعة وذات طبيعة خاصة، لذلك أن يتم إقامة هذا السد فى أوائل الستينيات يعتبر إنجازا. قصة السد قبل إنشاء السد العالى، كان يوجد خزان أسوان والذى نطلق عليه الحارس الأمين للسد العالى، حيث أنشئ الخزان خلال الفترة من 1898 إلى 1902 وكانت سعته التخزينية نحو مليار متر مكعب، وأجرى للخزان أعمال تأهيل وتعلية لتصبح سعته 2.5 مليار متر مكعب فى 1912 وتم عمل تأهيل نهائى للخزان فى 1933 وأصبحت سعته 5 مليارات متر مكعب، وهذه الكميات سنوية التخزين، أى يتم استخدم مياه الفيضان التى تم تخزينها فى نفس العام، ومع بداية القرن الماضى بدأ التفكير فى كيفية إنشاء السد لأننا نعلم أن الفيضان فى بعض السنوات يأتى عاليا ومدمرا، وكانت كميات المياه التى تأتى نستخدمها خلال موسم الفيضان وما يفيض يتم إلقاؤه فى البحر بل بالعكس يكون أحيانا أثره سلبيا ومدمرا إذا كان الفيضان عاليا، أيضا هناك عندما يأتى الفيضان قليلا حيث تكون الأمطار قليلة فى المنابع الأفريقية يكون الإيراد أقل من احتياجاتنا فتتحول وقتها لمشكلة لتوفير الاحتياجات لكل الاستخدامات، فتم التفكير فى إنشاء السد ليحجز المياه لاستخدامها فى سنوات الجفاف فى الفترات التى تكون فيها كميات كبيرة من مياه الفيضان وتخزينها أمام السد، حيث تم البدء فى عمل دراسات كثيرة فى العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضى. بعد الثورة تم الاستقرار بعد ثورة 1952 على البدء فى الخطوات التنفيذية لإنشاء السد، وخلال هذه الحقبة حتى وضع حجر الأساس وقعت أحداث كثيرة ، بداية من رفض البنك الدولى تمويل المشروع والعدوان الثلاثى وتأميم قناة السويس، حتى تم وضع حجر الأساس فى 9 يناير 1960 فى حضور الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، تلك المرحلة التى تم فيها تحويل مجرى النيل، واستمرت 4 سنوات حتى منتصف مايو 1964، وتم غلق مجرى نهر النيل القديم تماما وإنشاء الأنفاق ومحطة الكهرباء ودخول المياه فى مجرى التحويل الجديد وداخل الأنفاق، لتبدأ مرحلة جديدة ومهمة فى استكمال محطة الكهرباء وأعمال الإنشاءات، ويدأ السد العالى فى تخزين المياه من بعد عام 1964 تدريجيا حتى وصل فى أكتوبر 1967 لبداية أول شعلة كهرباء تمت إنارتها فى ربوع مصر حتى بدء دخول وحدات التوليد تباعا فى 1969 و1970 حتى الاكتمال النهائى للمشروع فى 15 يناير 1971 فى حضور الرئيس الراحل أنور السادات. وفى فترة إنشاء السد شارك 34 ألف عامل و400 خبير سوفييتي ، إضافة إلى شركات كثيرة مثل المقاولون العرب ومصر للأسمنت المسلح التى قامت بالأعمال الترابية والخرسانات وهيئة السد العالى، إضافة إلى القوات المسلحة ووزارة النقل، حيث ساهمت جميع الجهات فى إنشاء هذا المشروع الضخم، وقد ساهم السد فى تحقيق التنمية فى مختلف أنحاء مصر، فبالإضافة للحماية من الفيضانات والجفاف فقد حول مساحات كبيرة من الأراضى الزراعية من رى الحياض إلى رى دائم، وساعد على زيادة المساحة المزروعة، وساهم فى أعمال التنمية فى جنوب الوادى، وإمداد ربوع مصر بالكهرباء من خلال المحطات الكهرومائية بالسد، والتى تتكون من 12 توربينا بقدرة 175 ميجا وات للوحدة، ويتم توليد الكهرباء منها بإجمالى قدرة 2100 ميجاوات، وهى طاقة نظيفة تساهم فى ضبط الشبكة القومية للكهرباء، إضافة إلى أن السد كان له دور كبير فى أعمال مشروع تنمية جنوب الوادى فى توشكى وأبوسمبل وغيرهما من المشروعات.