المدهش و الغريب و العجيب أن رد دولة اثيوبيا بتاريخ 14 مايو 2020، على مذكرة التفاهم المصرية المقدمة لمجلس الأمن بتاريخ الأول من مايو 2020، احتوت على العديد من المغالطات والأخطاء، التى تناولنا بعضها في مقال سابق (سد النهضة فى مجلس الأمن .. قراءة سريعة في المذكرة الأثيوبية)، هنا سوف نستكمل القراءة، لنتناول نوعاً عجيباً وغريباً من المغالطات، التي امتلأت بها المذكرة الأثيوبية، متصورة أنها بها يمكنها أن تخدع شعبها وأن تخدع العالم، مع أنها لو نجحت في خداع شعبها، فهل تكون قادرة على خداع العالم بمثل هذه المغالطات؟ والأهم هل تكون قادرة بها على إنقاذ سد النهضة؟ مغالطات توزيع المياه بين مصر وأثيوبيا: ونبدأ هنا بمغالطة إثيوبية عجيبة ساقتها المذكرة الإثيوبية، ربما تهدف من ورائها الزعم أن مصر تأخذ من مياه النيل أكثر من حقها، كيف؟ تزعم المذكرة أن نصيب الفرد من مياه النيل هو نصيب الأسد، فتقول المذكرة أن نصيب الفرد من المياه السطحية متقارب بين كل من مصر وأثيوبيا(!!) فما معنى هذا القول؟ وما الهدف منه؟ وما هي حقيقته؟ وأين تكمن المغالطة؟ فلتأذنوا لي حضراتكم في توضيح ما ورد بالمذكرة الأثيوبية، من قلب للأمور و للحقائق، و آسف لأن أقول وللجهل بما اتفق عليه علماء الجغرافيا والمناخ، عندما قسموا مناخ العالم إلى مناطق يغلب عليها المناخ الاستوائي وشبه الاستوائي، حيث وفرة مياه الأمطار، وحيث تقع دولة إثيوبيا شمال خط الاستواء، ومناطق أخرى تم توصيف مناخها بالمناخ شبه الصحراوي والصحراوي، حيث ندرة الأمطار، و حيث تقع مصر و يقطعها مدار السرطان. لم تنكر المذكرة الإثيوبية هذه الحقائق الجغرافية والمناخية فقط، بل تصورت أنها يمكنها أن تخدع شعبها وتخدع العالم بإنكار الحقائق العلمية وإنكار الواقع، وتصورت أنها يمكنها الحديث عن نصيب الفرد من المياه بخديعة إهمال (مياه الأمطار) في حساب الميزان المائي لها مقارنة بمصر، لكي تقول في مذكرتها أن مصر تحصل على نصيب الأسد من مياه النيل. وكأننا بأثيوبيا لا تغالط العالم فقط، بل تغالط الطبيعة، وكأنها تريد أن تقنعنا بأن الأسد سفينة الصحراء وليس ملك الغابة، أو أن الجمل هو ملك الغابات والأدغال وليس سفينة الصحراء. حجم المياه بين المنابع والمصبات: إن حجم ما يسقط من أمطار على الهضبة الإثيوبية قرابة 900 مليار م3، في حين أن ما يسقط من أمطار على مصر قرابة 5 مليارات م3 فى العام، وكل ما تحصل عليه مصر من مياه النيل السطحية 55,5 مليار م3 من مجموع مياه الأمطار الساقطة على حوض نهر النيل الواردة من دول منابعه العشرة، والتي تصل إلى حوالى 1600 مليار م3 كل عام، فكيف تتساوي أو تتقارب حصة الفرد في مصر من مياه النيل مع حصة الفرد في إثيوبيا؟ إلا إذا عاندنا الطبيعة واعتبرنا مياه الأمطار السنوية على الهضبة الأثيوبية كأن لم تمكن، وأنها لا علاقة لها بمنابع نهر النيل، أو لو اعتبرنا أن نهر النيل مجرد مسار ومصب دون منابع . إننا نهيب بكل منظمات الأممالمتحدة ذات الصلة بقضايا المياه، مثل منظمة الأغذية والزراعة، والأرصاد الجوية والبرنامج الهيدرولوچي الدولي بمنظمة اليونسكو، أن تؤكد على هذه الحقائق التي نقولها ونكررها كل يوم لأصدقائنا الإثيوبيين، حيث مشكلتهم الحقيقية هي في إدارة صرف مياه الفيضانات الزائدة، وليس الحصول على حصة إضافية من مياه نهر النيل. ،إن الحكمة وبعد النظر والتقدير السليم فيما سقناه تقتضي توضيح أننا غير راغبين فى الصراع حول مصدر طبيعي من المياه المشتركة، لأنه كمصدر للمياه كافٍ، و به من الإمكانات ما يلبى طموحات شعبينا وبلدينا، شرط القدرة على إدارته كمصدر للمياه ينبع منه نهر مشترك، يمثل مصدراً لحياة كل الدول المشاركة فيه، وخاصة دول المصب. القرارات بالتوافق أم بالأغلبية؟ وقد سبق لصقور الحكومات الأثيوبية محاولة تغيير قواعد التصويت واتخاذ القرارات بين دول حوض النيل ولم ينجحوا، فمحاولاتهم لم تقف فقط عند حدود الزعم بأن نصيب الفرد في مصر من مياه النيل يقترب من نصيب الفرد الأثيوبي، بل راحت لفترة من الزمن تدعو لتغيير طريقة التصويت على القرارات بين دول حوض النيل، فيما عرف باتفاقية عنتيبي، التي لم توقع عليها كل من مصر والسودان، وكان التصويت حول أي قرار يخص دول حوض النيل وفقاً للاتفاقيات والمقررات التاريخية الثابتة، لابد أن يتم بالتوافق بين كل دول الحوض، أي كل الدول المتشاركة في نهر النيل، لكن صقور حكومات أثيوبيا أرادوا أن يكون اتخاذ القرار بالأغلبية، ورفضت مصر والسودان كدولتي مصب، لأن المعنى الوحيد لهذا التوجه الجديد، كان أن تفرض كتلة من دول المنابع رأيها على دولتي المصب. حقيقة التزام إثيوبيا بالاتفاقيات الدولية والثنائية: والمشكلة الفعلية لمذكرة أثيوبيا لمجلس الأمن، أنها إعادة محاولة لتضليل العالم حول حقيقة عدم التزام صقور الحكومات الإثيوبية بالاتفاقيات الدولية والثنائية، فهي قد أعلنت مراراً أنها لا تعترف وهي بكامل إرادتها بالاتفاقيات الموقعة مع مصر حول مبدأ عدم الضرر، عند إقامة مشروعات مائية مشتركة او منفردة على نهر النيل وروافده، وتبرر ذلك بزعم أو ادعاء أن تلك الاتفاقات استعمارية، أو تمت إبان العهود الاستعمارية. في حين أن تلك الاتفاقات ومنها اتفاقيات الحدود، كانت الأساس لقيام الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقى، و هاهي الآن ترفض فى مذكرتها دعوة مصر لطرح موضوع سد النهضة داخل منظمة الأممالمتحدة ومجلس الأمن، بينما تطالب بإعادة التفاوض من خلال الاتحاد الأفريقي ومبادرة حوض النيل واتفاقية عنتيبى المنقوصة، في حين أنها رافضة لمبدأ توارث المعاهدات (معاهدة فيينا) والتي على أساسها تم إنشاء الاتحاد الافريقى. وعلى الرغم من مشاركة كل دول حوض النيل فى مبادرة حوض النيل، إلا أنها كانت أول المخالفين عندما أعلنت ودونما إخطار مسبق بناء سد النهضة، مخالفة بذلك القواعد والمبادئ التي أرستها منظمات الأممالمتحدة، أما بالنسبة للإطار القانونى والمؤسسي والذي تطلب من خلاله من كل من مصر و السودان إعادة التفاوض، فكانت هي (الحكومة الإثيوبية) أول من غير قواعد عمل المجموعة القانونية الفنية، من اتخاذ القرار بالتوافق إلى التصويت بالأغلبية. وحكومة إثيوبيا هي التي رفضت التقرير الفني الذي أعده خبراء منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، في شأن المصادر المائية والأرضية المتاحة بدول حوض النيل وإمكانات تنميتها. من أفشل مفاوضات السنوات التسع؟ وتدعي إثيوبيا في مذكرتها لمجلس الأمن أن مصر دأبت على وضع العراقيل أمام المفاوضات، وعرقلت الوصول لاتفاق حول سد النهضة، والحقيقة عكس ذلك تماماً، فالتي أفشلت عمل اللجان الثلاثية، والسداسية والتساعية، ثم لجنة الخبراء الدوليين والمكاتب الاستشارية الدولية، والوساطة الروسية، ثم لم تذهب للعاصمة واشنطن دى سى للتوقيع على ما اتفق عليه خبراء وزارة الخزانة الامريكية والبنك الدولي، هي إثيوبيا، لكنها تدّعِي في خطابها لمجلس الأمن ادعاءً غريباً، أنها أرغمت على الذهاب لواشنطن، وأنها لم تستطع الذهاب للتوقيع بسبب فيروس كوفيد- 19 الشهير بفيروس كورونا. لقد تصور صقور إثيوبيا أنهم نجحوا في كسب الوقت، لا للاستفادة به، بل لإهداره، وتصوروا أنهم قادرين على خداع الجميع، باستخدامهم استراتيجية التفاوض من أجل التفاوض، فهل نجحت أثيوبيا في خداع الجميع؟ وإذا تصورت أنها نجحت، فهل تستطيع أن تبدأ في عملية الملء الأول للسد دون اتفاق؟ وهل بإمكانها تجاوز اتفاق واشنطن والعودة للتفاوض من نقطة الصفر؟ وهل بإمكانها، وهي المتعجلة في عملية بدء الملء والتشغيل، أن تنتظر لمدة تسع سنوات أخرى مفاوضات؟ خط مصر الواضح : إننا في مصر – حكومة ومؤسسات وطنية وشعباً – نتحدث عن ضرورة وجود دراسات لأمان السد تكون مقبولة، والدراسات السابقة لم ترقى لمستوى قبولها بواسطة لجنة الخبراء الدوليين، وكل ما نطلبه الآن هو استكمال مثل هذه الدراسات، والاتفاق على قواعد الملء والتشغيل لسد النهضة، الآن وبالمستقبل، حفاظاً على أرواح وحياة مواطني إثيوبيا والسودان قبل مصر، و كذلك لأجل ضمان السد كمنشاة هندسية، سيدفع ثمنها الشعب الأثيوبي لأجل رفاهيته ودعمًا للتنمية المتواصلة. إن موقفنا واضح، وقلقنا من نقص الدراسات ومن عدم توقيع إثيوبيا على اتفاق واشنطن واضح، وما يزيد من قلقنا هو شاهدنا القريب، نقصد خبر انهيار سدين بمقاطعة ميد لاند بولاية ميتشيجن الأمريكية يوم 20 مايو 2020 ، بمنطقة البحيرات العظمى، حيث إحداها بحيرة سوبيريور أكبر بحيرة للمياه العذبة بالعالم، وكذا تهديد ارتفاع مناسيب المياه لأمان السدود المقامة هناك ببحيرة فيكتوريا، أحد بحيرات الهضبة الاستوائية، أكبر البحيرات في أفريقيا، وثاني أكبر بحيرة للمياه العذبة بالعالم، إن موقفنا واضح جداً، وكل ما نتمناه أن تكون الحكومة الأثيوبية واضحة أمام شعبها، وأمام دول حوض النيل، وأمام العالم. *بقلم د. عبد الفتاح مطاوع خبير المياه